للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(بَابُ الْمَشْهُورِ) (مِنْ الْأَخْبَارِ)

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَشْهُورُ مَا كَانَ مِنْ الْآحَادِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ انْتَشَرَ فَصَارَ يَنْقُلُهُ قَوْمٌ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهُمْ الْقَرْنُ الثَّانِي بَعْدَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَأُولَئِكَ قَوْمٌ ثِقَاتٌ أَئِمَّةٌ لَا يُتَّهَمُونَ فَصَارَ بِشَهَادَتِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَاتِرِ حُجَّةً مِنْ حُجَجِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى قَالَ الْجَصَّاصُ: إنَّهُ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمُتَوَاتِرِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: إنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ الْأَخْبَارِ يُضَلَّلُ جَاحِدُهُ، وَلَا يُكَفَّرُ مِثْلُ حَدِيثِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَحَدِيثِ الرَّجْمِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ بِشَهَادَةِ السَّلَفِ صَارَ حُجَّةً لِلْعَمَلِ بِهِ كَالْمُتَوَاتِرِ فَصَحَّتْ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَسْخٌ عِنْدَنَا وَذَلِكَ

ــ

[كشف الأسرار]

خِلَافِ السُّوفِسْطَائِيَّة.

، وَقَوْلُهُمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ قُلْنَا لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِهَا كَوْنُ الْقَضِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْهَا نَظَرِيَّةً؛ لِأَنَّ صُورَةَ التَّرْتِيبِ أَوْ التَّرْكِيبِ مُمْكِنَةٌ فِي كُلِّ ضَرُورِيٍّ حَتَّى فِي أَظْهَرِ الضَّرُورِيَّاتِ كَقَوْلِنَا الشَّيْءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بِأَنْ يُقَالَ الْكَوْنُ، وَهُوَ الْوُجُودُ وَاللَّا كَوْنُ، وَهُوَ الْعَدَمُ مُتَقَابِلَانِ وَالْمُتَقَابَلَانِ يَمْتَنِعُ إنْصَافُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِهِمَا فَالشَّيْءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ إمْكَانَ صُورَةِ التَّرْتِيبِ لَا يَكْفِي فِي كَوْنِ الْعِلْمِ نَظَرِيًّا بَلْ يُحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى الْعِلْمِ بِارْتِبَاطِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ بِالْمَطْلُوبِ، وَأَنَّهَا الْوَاسِطَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[بَابُ الْمَشْهُورِ]

(بَابُ الْمَشْهُورِ مِنْ الْأَخْبَارِ هَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ الْقِسْمِ الثَّانِي)

مِنْ أَقْسَامِ الِاتِّصَالِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ الْآحَادِ فِي الْأَصْلِ كَانَ فِي الِاتِّصَالِ ضَرْبُ شُبْهَةِ صُورَةٍ، وَلِمَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ مَعَ عَدَالَتِهِمْ وَتَصَلُّبِهِمْ فِي الدِّينِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَاتِرِ. وَهُوَ اسْمٌ لِخَبَرِ كَانَ مِنْ الْآحَادِ فِي الْأَصْلِ أَيْ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ انْتَشَرَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي حَتَّى رَوَتْهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَقِيلَ هُوَ مَا تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ. وَالِاعْتِبَارُ لِلِاشْتِهَارِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَا عِبْرَةَ لِلِاشْتِهَارِ فِي الْقُرُونِ الَّتِي بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّ عَامَّةَ أَخْبَارِ الْآحَادِ اُشْتُهِرَتْ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ، وَلَا تُسَمَّى مَشْهُورَةً فَلَا يَجُوزُ بِهَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ مِثْلُ خَبَرِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِمَا. وَيُسَمَّى هَذَا الْقِسْمُ مَشْهُورًا، وَمُسْتَفِيضًا مِنْ شَهَرَ يَشْهَرُ شَهْرًا وَشُهْرَةً فَاشْتُهِرَ أَيْ وَضَحَ، وَمِنْهُ شَهَرَ سَيْفَهُ إذَا سَلَّهُ. وَاسْتَفَاضَ الْخَبَرُ أَيْ شَاعَ وَخَبَرٌ مُسْتَفِيضٌ أَيْ مُنْتَشِرٌ بَيْنَ النَّاسِ.

وَأَمَّا حُكْمُهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ. وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ مِثْلُ الْمُتَوَاتِرِ فَيَثْبُتُ بِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ لَكِنْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لَا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ: خَبَرُ الْوَاحِدِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ مِثْلَ خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَخَبَرِ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْجَنِينِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ. وَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ لَا عِلْمَ يَقِينٍ فَكَانَ دُونَ الْمُتَوَاتِرِ، وَفَوْقَ خَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ تَعْدِلُ النَّسْخَ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ النَّسْخُ بِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَالشَّيْخَيْنِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ أَبُو الْيُسْرِ وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إلَى الْإِكْفَارِ فَعِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ يَعْنِي مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَعِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي لَا يَكْفُرُ وَنَصَّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ جَاحِدَهُ لَا يَكْفُرُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ.

وَجْهُ قَوْلِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّابِعِينَ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ثَبَتَ صِدْقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْقَبُولِ إلَّا بِجَامِعِ جَمْعِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا تَعْيِينَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي الرُّوَاةِ وَلِهَذَا سَمَّيْنَا الْعِلْمَ الثَّابِتَ بِهِ اسْتِدْلَالِيًّا لَا ضَرُورِيًّا إلَّا أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ وَجُحُودَهُ لَا يُؤَدِّي إلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَدَدٌ لَا يُتَصَوَّرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>