(بَابُ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ)
فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْلَا جَهْلُ بَعْضِ النَّاسِ وَالطَّعْنُ بِالْبَاطِلِ فِي هَذَا الْبَابِ لَكَانَ الْأَوْلَى مِنَّا الْكَفَّ عَنْ تَقْسِيمِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَالْوَحْيُ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ أَمَّا الظَّاهِرُ فَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ.
مَا ثَبَتَ بِلِسَانِ الْمَلَكِ فَوَقَعَ فِي سَمْعِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْمُبَلِّغِ بِآيَةٍ قَاطِعَةٍ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِلِسَانِ الرُّوحِ الْأَمِينِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالثَّانِي مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ وَوَضَحَ لَهُ بِإِشَارَةِ الْمَلَكِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ بِالْكَلَامِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» وَالثَّالِثُ مَا تَبَدَّى لِقَلْبِهِ بِلَا شُبْهَةٍ وَلَا مُزَاحِمٍ وَلَا مُعَارِضٍ بِإِلْهَامٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ أَرَاهُ بِنُورٍ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: ١٠٥] فَهَذَا وَحْيٌ ظَاهِرٌ كُلُّهُ مَقْرُونٌ بِمَا هُوَ ابْتِلَاءٌ أَعْنِي بِهِ الِابْتِلَاءَ فِي دَرْكِ حَقِّيَّتِهِ بِالتَّأَمُّلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ طَرِيقُ الظُّهُورِ وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ حُجَّةً بَالِغَةً وَإِنَّمَا يُكْرَمُ غَيْرُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِحَقِّهِ عَلَى مِثَالِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ
ــ
[كشف الأسرار]
مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هُوَ فِيهَا قُدْوَةُ أُمَّتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَصْلَ هُوَ الِاخْتِصَاصُ وَالِاشْتِرَاكُ لِعَارِضٍ وَعِنْدَ الْجَصَّاصِ الْأَصْلُ هُوَ الِاتِّبَاعُ وَالْخُصُوصِيَّةُ بِعَارِضٍ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ بِعَارِضٍ وَالْعَارِضُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا تَقْسِيمُ السُّنَنِ فِي حَقِّنَا) أَيْ هَذَا الْبَابُ لِتَقْسِيمِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّنَا، فَإِنَّهُ لِبَيَانِ أَنْوَاعِ الِاتِّبَاعِ الَّذِي هُوَ رَاجِعٌ إلَيْنَا وَلِهَذَا أُدْخِلَ فِيهِ الْوَاجِبُ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَوْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَوَّلِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ إلَى مَا انْتَهَيْنَا إلَيْهِ تَقْسِيمُ السُّنَّةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَهَذَا الْبَابُ الَّذِي نَشْرَعُ فِيهِ.
[بَابُ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ]
[أَنْوَاع الوحى]
(بَابُ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) :
أَيْ بَيَانُ طَرِيقَتِهِ فِي إظْهَارِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ قَوْلُهُ (وَلَوْلَا جَهْلُ بَعْضِ النَّاسِ وَالطَّعْنُ بِالْبَاطِلِ) بِأَنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَحْكُمَ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَأَنْ يَعْتَمِدَ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَى غَيْرِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُؤَدٍّ إلَى انْحِطَاطِ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ إلَى دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ لَكَانَ الْأَوْلَى مِنَّا الْكَفُّ عَنْ تَقْسِيمِهِ أَيْ تَقْسِيمِ سُنَّتِهِ وَطَرِيقَتِهِ فِي إظْهَارِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ دُونَهُ عَدَمُ اشْتِغَالِهِ بِمِثْلِ هَذَا التَّقْسِيمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالتَّقْسِيمِ نَوْعُ إحَاطَةٍ وَفِيهِ أَيْضًا نِسْبَةُ الْخَطَأِ فِي بَعْضِ الصُّدُورِ إلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ عَدَمِ التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ وَفِيهِ سُوءُ أَدَبٍ فَكَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ وَلَكِنَّ طَعْنَ الْجَاهِلِ وَتَعَنُّتَهُ بِأَنْ قَالَ: كَيْفَ سَاغَ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ تَوَصُّلِهِ إلَى مَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَهُوَ الْوَحْيُ حَمَلَ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ وَرَخَّصَ فِي الِاشْتِغَالِ بِهِ دَفْعًا لِعَنَتِهِمْ وَكَشْفًا عَنْ شُبْهَتِهِمْ قَوْلُهُ (وَالْوَحْيُ نَوْعَانِ) يَعْنِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْوَحْيِ فِي إظْهَارِ جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّ الْوَحْيَ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ.
وَقَسَّمَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إلَى وَحْيٍ ظَاهِرٍ وَإِلَى وَحْيٍ بَاطِنٍ وَإِلَى مَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ وَجَعَلَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ الْوَحْيِ الظَّاهِرِ وَالْقِسْمَ الثَّالِثَ مِنْ الْوَحْيِ الْبَاطِنِ وَعَمَلُهُ بِالِاجْتِهَادِ مِمَّا يُشْبِهُ الْوَحْيَ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ وَبَعْدَ عِلْمِهِ أَيْ عِلْمِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْمُبَلِّغِ وَهُوَ الْمَلَكُ بِآيَةٍ قَاطِعَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ تُوجِبُ عَلَى الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مَلَكٌ يُبَلِّغُهُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا ظَهَرَتْ لَنَا الْآيَاتُ الْقَاطِعَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ وَالْمُعْجِزَاتُ الظَّاهِرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَهُوَ أَيْ مَا ثَبَتَ بِلِسَانِ الْمَلَكِ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِلِسَانِ الرُّوحِ الْأَمِينِ وَهُوَ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: ٤٠ - ١٩٤] .
قَوْلُهُ (كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي) أَيْ أَوْقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَيْ تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا بِكَمَالِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ اجْهَدُوا فِي طَلَبِ التَّقْوَى وَجِدُّوا فِي تَحْصِيلِهَا كُلَّ الْجُهْدِ وَالْجَدِّ، فَإِنَّهَا لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالسَّعْيِ لَا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُ أَحَدًا بَلْ أَجْمِلُوا فِي طَلَبِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ وَتَرْكِ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ الرِّزْقَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى