للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِلِاسْتِحْسَانِ أَقْسَامٌ وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ مِثْلُ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَبَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ فِعْلِ النَّاسِي

ــ

[كشف الأسرار]

وَهَكَذَا حُكْمُ الطَّرْدِ مَعَ الْأَثَرِ فَإِنَّ الطَّرْدَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالْأَثَرَ حُجَّةٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا هُوَ حُجَّةٌ بَلْ الْعَمَلُ بِالْأَثَرِ وَاجِبٌ، وَالطَّرْدُ بِمُقَابَلَتِهِ سَاقِطٌ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مُعَارَضَةٍ فَإِنَّ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا رُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَسَقَطَ الْآخَرُ أَصْلًا فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الْوَجْهُ الْمَأْخُوذُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ جَائِزٌ إنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ عِنْدَ سَلَامَتِهِ عَنْ مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّرْدِ مَعَ الْأَثَرِ يَعْنِي إذَا لَمْ يُعَارِضْ الطَّرْدَ أَثَرٌ جَازَ الْعَمَلُ بِهِ إذَا كَانَ مُلَائِمًا، وَإِذَا ظَهَرَ الْأَثَرُ فَالْمَعْمُولُ هُوَ الْأَثَرُ وَالطَّرْدُ سَاقِطٌ، وَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ

[أَقْسَامُ الِاسْتِحْسَانِ]

قَوْلُهُ: (وَلِلِاسْتِحْسَانِ أَقْسَامٌ) يَعْنِي لَيْسَ الِاسْتِحْسَانُ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَوْعَيْهِ بَلْ لَهُ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِثْلُ الِاسْتِحْسَانِ الثَّابِتِ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّ غَرَضَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ لَمَّا كَانَ تَقْسِيمَ أَنْوَاعِ الْعِلَلِ إذْ نَحْنُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْعِلَّةِ قَسَّمْنَا الِاسْتِحْسَانَ الَّذِي هُوَ قِيَاسٌ خَفِيٌّ فَانْقَسَمَ عَلَى نَوْعَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ الضَّمِيرُ إمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى الِاسْتِحْسَانِ أَوْ إلَى أَقْسَامٍ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مُشْتَبِهٌ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ هُوَ، وَمِنْهُ فِيمَا بَعْدُ لَكَانَ أَوْضَحَ مِثْلُ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَبَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ فِعْلِ النَّاسِي.

فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ حَقِيقَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ الْمُوجِبِ لِلتَّرَخُّصِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّاوِي وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» الْحَدِيثَ، وَأَقَمْنَا الذِّمَّةَ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَقَامَ مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جَوَازِ السَّلَمِ.

وَكَذَا الْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ النَّفَقَةُ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعَقْدِ مُضَافًا إلَى زَمَانِ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَعْطُوا الْأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» فَالْأَمْرُ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَكَذَا الْأَكْلُ نَاسِيًا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَبْقَى مَعَ وُجُودِ مَا يُنَافِيهِ كَالطَّهَارَةِ مَعَ الْحَدَثِ وَالِاعْتِكَافِ مَعَ الْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَّا أَنَّهُ مَتْرُوكٌ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَتِمَّ عَلَى صَوْمِك فَإِنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْت يَقْتَضِي يَعْنِي بِهِ رِوَايَةَ الْأَثَرِ. وَمِنْهُ أَيْ وَمِنْ الِاسْتِحْسَانِ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ مِثْلُ الِاسْتِصْنَاعِ يَعْنِي فِيمَا فِيهِ لِلنَّاسِ تَعَامُلٌ مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ إنْسَانًا لِيُخَرِّزَ لَهُ خُفًّا مَثَلًا بِكَذَا وَيُبَيِّنَ صِفَتَهُ وَمِقْدَارَهُ، وَلَا يَذْكُرُ لَهُ أَجَلًا وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ أَوْ لَا يُسَلِّمُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَعْدُومٌ وَصْفًا فِي الذِّمَّةِ.

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ إلَّا بَعْدَ تَعَيُّنِهِ حَقِيقَةً أَيْ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ فَأَمَّا مَعَ الْعَدَمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عَقْدٌ لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا تَرْكَهُ بِالْإِجْمَاعِ الثَّابِتِ بِتَعَامُلِ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ؛ لِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ يَتَعَيَّنُ جِهَةُ الْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ كَمَا يَتَعَيَّنُ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ وَاجِبَ التَّرْكِ، وَقَصَرُوا الْأَمْرَ عَلَى مَا فِيهِ تَعَامُلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِجْمَاعُ وَقَعَ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» قُلْنَا: قَدْ صَارَ النَّصُّ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ مَخْصُوصًا

<<  <  ج: ص:  >  >>