فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُمَا مِثْلُ الْعَدْلِ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا مِثْلُ الْكَافِرِ لَا يَقُومُ حُجَّةٌ بِخَبَرِهِمَا وَلَا يُفَوَّضُ أَمْرُ الدِّينِ إلَيْهِمَا لِمَا قُلْنَا: إنَّ خَبَرَهُمَا لَا يَصْلُحُ مُلْزِمًا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ فَرْعٌ لِلْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ مُلْزِمَةٌ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا وَإِنَّمَا هِيَ مُجَوَّزَةٌ فَكَيْفَ يَثْبُتُ مُتَعَدِّيَةً مُلْزِمَةً وَإِنَّمَا.
قُلْنَا: إنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ مُلْزِمَةٌ؛ لِأَنَّ مَا يُخْبِرُ عَنْهُ الصَّبِيُّ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَيَصِيرُ غَيْرُهُ مَقْصُودًا بِخَبَرِهِ فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ الْإِلْزَامِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْكَافِرِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وَالْمَعْتُوهُ مِثْلُ الصَّبِيِّ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْمَبْسُوطِ
ــ
[كشف الأسرار]
قَبُولِهِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَنْفَكُّ عَنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ حَيْثُ يَجِبُ التَّحَرِّي فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلَا يَجِبُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بَلْ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْكِيمِ الرَّأْيِ فَقَالَ إلَّا أَنَّ الضَّرُورَةَ أَيْ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ إلَى آخِرِهِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ حَلَالٌ فِي الْأَصْلِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ حِلِّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ دُونَ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ لَكِنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ لَمَّا اتَّفَقَتَا فِي الْحُكْمِ قَالَ الْمَاءُ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْحِلُّ أَيْضًا فَلَمْ يُجْعَلْ الْفِسْقُ هَدَرًا أَيْ بَاطِلًا سَاقِطًا بَلْ وَجَبَ ضَمُّ التَّحَرِّي إلَيْهِ بِخِلَافِ خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ بِأَنْ قَالَ إنَّ فُلَانًا أَهْدَى إلَيْك هَذَا الشَّيْءَ أَوْ قَالَ إنَّ فُلَانًا وَكَّلَك بِبَيْعِ هَذَا الشَّيْءِ أَوْ وَكَّلَنِي بِهِ، وَنَحْوُهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ حَيْثُ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ ضَمِّ التَّحَرِّي إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ ثَمَّهْ بِسُكُونِ الْهَاءِ لَازِمَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَبْعَثُ هَدِيَّةً لَا يَجِدُ عَدْلًا يَبْعَثُهَا عَلَى يَدَيْهِ وَكَذَا فِي الْوَكَالَةِ وَلَيْسَ فِيهَا أَصْلٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ فَجُعِلَ الْفِسْقُ هَدَرًا وَجَوَّزَ قَبُولَ قَوْلِهِ مُطْلَقًا كَخَبَرِ الْعَدْلِ.
وَفِيهِ أَيْ فِي الْفَرْقِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يُجْعَلْ خَبَرُ الْفَاسِقِ فِيهِمَا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ أَكْبَرُ الرَّأْيِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ يَنْفَكُّ عَنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فَجَازَ الِاعْتِمَادُ فِيهَا عَلَى خَبَرِهِ مُطْلَقًا.
[خَبَر الْكَافِرِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ]
قَوْلُهُ (قَالَ بَعْضُهُمْ) كَذَا إنَّمَا نَشَأَ الْخِلَافُ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ فَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ، وَإِذَا حَضَرَ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً إلَّا فِي إنَاءٍ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ قَذَرٌ، وَهُوَ عِنْدَهُ مُسْلِمٌ مَرَضِيٌّ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَسْتُورًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مُرَادُهُ بِهَذَا الْعَطْفِ أَنَّ الصَّبِيَّ كَالْبَالِغِ إذَا كَانَ مَرَضِيًّا فَجَعَلَهُ عَطْفًا عَلَى الْعَدْلِ لَا عَلَى الْكَافِرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ وَلَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْكَافِرِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَعْقِلَا مَا يَقُولَانِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُمَا أَيْضًا، وَهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ لَمَّا سَقَطَ فِي هَذَا الْبَابِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْبُلُوغِ كَمَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ قَبِلُوا خَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى اسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ حِينَئِذٍ صَغِيرًا؛ فَإِنَّهُ عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّهُ لِصِغَرِهِ وَتَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ كَانَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ مُرَادُهُ الْعَطْفُ عَلَى الْفَاسِقِ حَتَّى وَجَبَ ضَمُّ التَّحَرِّي إلَى خَبَرِهِ كَمَا فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فَلَا يُجْعَلُ عَطْفًا عَلَى الْأَبْعَدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِمَا قُلْنَا يَعْنِي فِي أَوَّلِ بَابِ تَفْسِيرِ الشُّرُوطِ أَنَّ خَبَرَهُمَا لَا يَصْلُحُ مُلْزِمًا بِحَالٍ يَعْنِي سَوَاءٌ انْضَمَّ إلَيْهِ التَّحَرِّي أَوْلَمَ يَنْضَمَّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ فَرْعٌ لِلْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ أَيْ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ فَرْعٌ لِثُبُوتِهَا عَلَى نَفْسِهِ إذْ الْأَصْلُ فِي الْوِلَايَاتِ وِلَايَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ قُدْرَةٌ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ فِي نَفْسِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute