قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [الأعراف: ١٠٥] وَقَالَ {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: ١٢] .
وَأَمَّا مِنْ فَلِلتَّبْعِيضِ هُوَ أَصْلُهَا وَمَعْنَاهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ ذَكَرْنَا مَسَائِلَهَا فِي قَوْلِهِ أَعْتِقْ مِنْ عَبِيدِي مَنْ شِئْت وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ وَمَسَائِلُهُ كَثِيرَةٌ.
ــ
[كشف الأسرار]
وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى الْبَاءِ قَوْلُهُ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [الأعراف: ١٠٥] . أَيْ أَنِّي جَدِيرٌ بِأَمْرِ الرِّسَالَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ. وَقَالَ تَعَالَى {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: ١٢] .
أَيْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. فَأَمَّا أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فَلَمْ يَذْكُرُوا مَعْنَى الشَّرْطِ فِيهِ فَقَالُوا مَعْنَاهُ جَدِيرٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ. أَوْ ضَمِنَ حَقِيقٌ مَعْنَى حَرِيصٍ فَاسْتَقَامَ عَلَى صِلَةٍ لَهُ. أَوْ هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالصِّدْقِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُ لَمَّا قَالَ {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: ١٠٤] كَذَبْت فَيَقُولُ أَنَا حَقِيقٌ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ أَيْ وَاجِبٌ عَلَيَّ قَوْلُ الْحَقِّ أَنْ أَكُونَ قَائِلَهُ وَالْقَائِمَ بِهِ وَلَا يَرْضَى إلَّا بِمِثْلِي نَاطِقًا بِهِ. وَكَذَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى. {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: ١٢] . أَنَّ عَلَى صِلَةُ الْمُبَايَعَةِ يُقَالُ بَايَعَهُ عَلَى كَذَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَدَّى إلَى مَعْنَى الشَّرْطِ إذْ الْمُبَايَعَةُ تَوْكِيدٌ كَالشَّرْطِ، تَوَسَّعَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا إنَّهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ.
[مَعْنَى مِنْ]
قَوْلُهُ (فَأَمَّا مِنْ فَلِلتَّبْعِيضِ) ذَكَرَ النُّحَاةُ أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ يُقَالُ سِرْت مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْبَصْرَةِ وَهَذَا الْكِتَابُ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ. وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ كَقَوْلِهِمْ أَخَذْت مِنْ الدَّرَاهِمِ وَزَيْدٌ مِنْ الْقَوْمِ. وَلِلتَّبْيِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: ٣٠] . وَكَقَوْلِهِمْ: خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ وَبَابٌ مِنْ سَاجٍ. وَقَدْ تَكُونُ مَزِيدَةً كَقَوْلِك مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ الْكُلُّ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَإِنَّ قَوْلَك أَخَذْت مِنْ الدَّرَاهِمِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ مَوْضِعُ أَخْذِك وَابْتِدَاءُ غَايَتِهِ كَمَا أَنَّ قَوْلَك سِرْت مِنْ الْبَصْرَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَصْرَةِ مَنْشَأُ سَيْرِك غَيْرَ أَنَّهَا فِي الدَّرَاهِمِ أَفَادَتْ التَّبْعِيضَ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ فِيهَا وَلَمْ تَفْدِهِ فِي قَوْلِك سِرْت مِنْ الْبَصْرَةِ لِأَنَّك إذَا فَارَقْتهَا فَقَدْ فَارَقْت جَمِيعَ نَوَاحِيهَا إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا مِنْهَا وَغَيْرَ خَارِجٍ. وَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ} [الحج: ٣٠] إذْ الرِّجْسُ مِنْ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهَا فَلَمَّا قَالَ مِنْ الْأَوْثَانِ بَيَّنَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَجَعَلَ مَبْدَأَ الِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانَ. وَكَذَا قَوْلُك مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ مَعْنَاهُ مِنْ وَاحِدٍ هَذَا الْجِنْسُ إلَى إقْصَاءٍ فَيَكُونُ مَعْنَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُسْتَفَادًا مِنْ الْجَمِيعِ كَمَا تَرَى. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مَعْنَاهَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ فَقَطْ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي جَامِعِهِ أَيْضًا أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لَيْسَتْ عَيْنُهَا بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ وَلِلِانْتِزَاعِ وَابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَصَارَتْ لِلتَّبْعِيضِ. وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لَمَّا وَجَدَهَا أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا فِي التَّبْعِيضِ جَعَلُوهَا فِيهِ أَصِيلًا وَفِيمَا سِوَاهُ دَخِيلًا وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ هَاهُنَا فَقَالَ هُوَ أَصْلُهَا وَمَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ لَمَّا قُلْنَا إنَّ الِاشْتِرَاكَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَجَعَلْنَاهَا لِلتَّبْعِيضِ لِيَكُونَ لَهُ مَعْنًى يَخُصُّهُ. وَرَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ وَابْتِدَاءِ الْغَايَةِ جَمِيعًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَوْضِعِهِ حَقِيقَةٌ. وَمَسَائِلُهُ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: رَجُلٌ قَالَ إنْ كَانَ مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَّا ثَلَاثَةً أَوْ غَيْرَ ثَلَاثَةٍ أَوْ سِوَى ثَلَاثَةٍ فَجَمِيعُ مَا فِي يَدِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَإِذَا فِي يَدِهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ أَوْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَلَوْ قَالَ إنْ كَانَ فِي يَدِي دَرَاهِمُ إلَّا ثَلَاثَةً، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ غَيْرُ الثَّلَاثَةِ مَا يَكُونُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدِّرْهَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute