للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَهُوَ الْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ أَنَّهُ يَكُونُ عُذْرًا فِي الشَّرَائِعِ حَتَّى إنَّهَا لَا تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ النَّازِلَ خَفِيَ فَيَصِيرُ الْجَهْلُ بِهِ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ الْخِطَابُ فِي أَوَّلِ مَا يَنْزِلُ فَإِنْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ مَعْذُورًا مِثْلَ مَا رَوَيْنَا فِي قِصَّةِ أَهْلِ قُبَا وَقِصَّةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: ١٤٣] وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: ٩٣] الْآيَةُ فَأَمَّا إذَا انْتَشَرَ الْخِطَابُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ تَمَّ التَّبْلِيغُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَمَنْ جَهِلَ مِنْ بَعْدُ فَإِنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ تَقْصِيرِهِ لَا مِنْ قِبَلِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ فَلَا يُعْذَرُ كَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْمَاءَ فِي الْعُمْرَانِ وَلَكِنَّهُ تَيَمَّمَ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فَصَلَّى لَمْ يُجْزِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

يَصْلُحُ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَجَهْلُ الْحَرْبِيِّ بِحُرْمَةِ الْخَمْرِ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالْخِطَابِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ عَنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَدَارُهُمْ دَارُ الْجَهْلِ وَضَيَاعِ الْأَحْكَامِ فَيَصْلُحُ جَهْلُهُ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ.

فَأَمَّا جَهْلُهُ بِحُرْمَةِ الزِّنَا فَفِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الْعِلْمُ بِحُرْمَتِهِ عَلَى بُلُوغِ خِطَابِ الشَّرْعِ لِتَحَقُّقِ حُرْمَتِهِ قَبْلَهُ فَلَا يَصْلُحُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ وَكَذَا جَهْلُ الذِّمِّيِّ بِحُرْمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ شَائِعٌ فِيهَا فَلَمْ يَصِرْ جَهْلُهُ شُبْهَةً لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ بَلْ الِاشْتِبَاهُ وَقَعَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي الطَّلَبِ فَلَا يُعْذَرُ

[الْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ]

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ) وَهُوَ الَّذِي يَصْلُحُ عُذْرًا فَهُوَ كَذَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ وَالْقِسْمَ الثَّالِثَ بِنَاءٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ بِالدَّلِيلِ كَذَا قِيلَ فَالْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ يَكُونُ عُذْرًا فِي الشَّرَائِعِ حَتَّى لَوْ مَكَثَ مُدَّةً وَلَمْ يُصَلِّ فِيهَا أَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا؛ لِأَنَّ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِأَحْكَامِهِ وَلَكِنْ قَصُرَ عَنْهُ خِطَابُ الْأَدَاءِ لِجَهْلِهِ بِهِ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ كَالنَّائِمِ إذَا انْتَبَهَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْخِطَابَ النَّازِلَ خَفِيَ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ إلَيْهِ حَقِيقَةً بِالسَّمَاعِ وَلَا تَقْدِيرًا بِاسْتِفَاضَتِهِ وَشُهْرَتِهِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِمَحَلِّ اسْتِفَاضَةِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ.

فَيَصِيرُ الْجَهْلُ بِالْخِطَابِ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا جَاءَ الْجَهْلُ مِنْ قِبَلِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي نَفْسِهِ حَيْثُ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ وِلَايَةِ التَّبْلِيغِ عَنْهُمْ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالْخِطَابِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي الْخَفَاءِ الْخِطَابُ فِي أَوَّلِ مَا يَنْزِلُ فَإِنَّهُ خَفِيٌّ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَمِ اسْتِفَاضَتِهِ بَيْنَهُمْ فَيَصِيرُ الْجَهْلُ بِهِ عُذْرًا مِثْلُ مَا رُوِّينَا بِضَمِّ الرَّاءِ فِي قِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ فَإِنَّهُمْ صَلُّوا صَلَاةَ الظُّهْرِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَافْتَتَحُوا الْعَصْرَ مُتَوَجِّهِينَ إلَيْهِ أَيْضًا فَأُخْبِرُوا بِتَحَوُّلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَتَوَجَّهُوا إلَيْهَا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وَجَوَّزَ ذَلِكَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ وَعَلَيْهِ حَمَلَ الشَّيْخُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: ١٤٣] أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْمَذْكُورُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا تَوَجَّهَ إلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا كَيْفَ مَنْ مَاتَ قَبْلَ التَّحْوِيلِ مِنْ إخْوَانِنَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقِصَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَإِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَشَرِبُوا بَعْدَ التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحُرْمَتِهَا فَنَزَلَ قَوْلُهُ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: ٩٣] الْآيَةُ وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ «لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ وَكَيْفَ بِالْغَاصِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ بِتَحْرِيمِهَا وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: ٩٣] » أَيْ مِنْ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ فِي الْبُلْدَانِ إثْمٌ فِيمَا طَعِمُوا مِنْ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ إذَا مَا اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سِوَاهُمَا.

وَقِيلَ اتَّقَوْا الشِّرْكَ وَآمَنُوا بِاَللَّهِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي إيمَانِهِمْ ثُمَّ اتَّقَوْا يَعْنِي الْأَحْيَاءُ فِي الْبُلْدَانِ الْخَمْرَ وَالْقِمَارَ

<<  <  ج: ص:  >  >>