وَضَرْبٌ آخَرُ إذَا دَخَلَ لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ
ــ
[كشف الأسرار]
لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ أَوْ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَيْهَا كَقَوْلِك مَا رَأَيْت رَجُلًا وَفِي الْوَجْهَيْنِ يَثْبُتُ الْعُمُومُ فِيهَا ضَرُورَةً وَاقْتِضَاءً لَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ إذْ هِيَ لَا يَتَنَاوَلُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إلَّا وَاحِدًا. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى رُؤْيَةَ رَجُلٍ مُنَكَّرٍ فَقَدْ نَفَى رُؤْيَةَ جَمِيعِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى رُؤْيَةَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ رُؤْيَةِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ إذْ لَوْ كَانَ رَأَى رَجُلًا وَاحِدًا لَا يَنْتَفِي رُؤْيَةُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ لَا تَضْرِبْ الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ عُدَّ مُخَالِفًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ أَجْمَعَ بِضَرْبِ وَاحِدٍ وَكَذَا لَوْ قَالَ مَا أَكَلْت الْيَوْمَ شَيْئًا فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قَالَ بَلْ أَكَلْت شَيْئًا وَلَوْ لَمْ يُفِدْ الْأَوَّلُ الْعُمُومَ لَمَا صَحَّ هَذَا التَّكْذِيبَ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْجُزْئِيَّ لَا يُنَاقِضُ السَّلْبَ الْجُزْئِيَّ. وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا قَالَتْ {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: ٩١] رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ. {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: ٩١] .
وَلَمْ يُفِدْ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ الْعُمُومَ لَمَّا كَانَ هَذَا رَدًّا لَهُ. وَلِأَنَّ النُّصُوصَ وَالْإِجْمَاعَ تَدُلُّ عَلَى كَلِمَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةِ تَوْحِيدٍ وَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ نَفْيُ النَّكِرَةِ مُوجِبًا لِلْعُمُومِ (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ يَصِحُّ الْإِضْرَابُ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَا رَأَيْت رَجُلًا بَلْ رَأَيْت رَجُلَيْنِ أَوْ رِجَالًا كَذَا نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُوجِبًا لِلْعُمُومِ لَمَا صَحَّ كَمَا لَوْ قِيلَ مَا رَأَيْت رَجُلًا بَلْ رَأَيْت رِجَالًا (قُلْنَا) نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ ذَلِكَ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ بِقَرِينَةِ الْإِضْرَابِ يُفْهِمُ الْمُرَادُ نَفْيَ صِفَةِ الْوَحْدَةِ لَا نَفْيَ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ كَمَا لَوْ قَالَ مَا رَأَيْت رَجُلًا كُوفِيًّا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ رُؤْيَةِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْمَوْصُوفَةِ لَا مُطْلَقِ الْحَقِيقَةِ كَذَا هَذَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّكِرَةَ تَعُمُّ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ كَمَا تَعُمُّ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ يُقَالُ مَنْ يَأْتِنِي بِمَالٍ أُجَازِهِ لَا يَخْتَصُّ هَذَا بِمَالٍ دُونَ مَالٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا عَمَّتْ فِي النَّفْيِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِمُعَيَّنٍ فِي قَوْلِك رَأَيْت رَجُلًا وَالنَّفْيُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ نَقِيضُ الْإِثْبَاتِ فَإِذَا انْضَمَّ النَّفْيُ إلَى التَّنْكِيرِ اقْتَضَى اجْتِمَاعُهُمَا الْعُمُومَ فَكَذَا الشَّرْطُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بَلْ مُقْتَضَاهُ الْعُمُومُ فَالنَّكِرَةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَوْضِعِهِ تَعُمُّ أَيْضًا وَلَمَّا كَانَتْ الْمَعْرِفَةُ خِلَافَ النَّكِرَةِ كَانَ الْفَرْقُ فِي عُمُومِهَا لِلْأَجْزَاءِ وَعَدَمُهُ فِي حَالَتَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ عَلَى عَكْسِ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّكِرَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ فَاشْتَرَاهُ إلَّا جُزْءًا مِنْهُ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْتَرِيَن هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ فَاشْتَرَاهُ إلَّا جُزْءًا مِنْهُ يَحْنَثُ.
ثُمَّ قِيلَ النَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ أَنَّمَا تَخُصُّ إذَا كَانَتْ اسْمًا غَيْرَ مَصْدَرٍ فَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرًا فَهِيَ تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ. {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: ١٤] . وَصَفَ الثُّبُورَ بِالْكَثْرَةِ وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا وَنَوَى الثَّلَاثَ يَصِحُّ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنَكَّرَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فِي الْإِثْبَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ رَأَيْت رَجُلًا كَثِيرًا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ.
[لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ]
قَوْلُهُ (وَضَرْبٌ آخَرُ) أَيْ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ لَامُ التَّعْرِيفِ. اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْأُصُولِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي اسْمِ الْجِنْسِ إذَا دَخَلَتْهُ لَامُ التَّعْرِيفِ لَا لِلْعَهْدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُرَادٌ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بَلْ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَسَوِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ اللَّامُ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفَرْدِ أَوْ الْجَمْعِ يَصِيرُ لِلْجِنْسِ إلَّا أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالْأَدْنَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَيْضًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute