إذْ الْعَقْدُ فَضْلٌ عَلَى الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: ١٤] ، وَقَالَ تَعَالَى {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: ١٤٦] فَصَحَّ الِابْتِلَاءُ بِالْعَقْدِ كَمَا صَحَّ بِالْعَمَلِ بِالْبَدَنِ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ قُلْنَا: إنَّهُ مُنْقَسِمٌ وَهَذَا (بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ ضَرْبَانِ مَعْرُوفٌ وَمَجْهُولٌ وَالْمَعْرُوفُ نَوْعَانِ مَنْ عُرِفَ بِالْفِقْهِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الِاجْتِهَادِ وَمَنْ عُرِفَ بِالرِّوَايَةِ دُونَ الْفِقْهِ وَالْفُتْيَا وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَعَلَى وُجُوهٍ إمَّا أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ الثِّقَاتُ وَيَعْمَلُوا بِحَدِيثِهِ وَيَشْهَدُوا لَهُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ وَيَسْكُتُوا عَنْ الطَّعْنِ فِيهِ أَوْ يُعَارِضُوهُ بِالطَّعْنِ وَالرَّدِّ أَوْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ حَدِيثُهُ بَيْنَ السَّلَفِ فَصَارَ قِسْمُ الْمَجْهُولِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ
ــ
[كشف الأسرار]
مِنْ حِلِّ الصَّلَاةِ مَا لَا يَثْبُتُ بِغُسْلِ عُضْوٍ وَاحِدٍ. وَيَثْبُتُ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ مَا لَا يَثْبُتُ بِطَلْقَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَعَكْسَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّهُ يَحْدُثُ لِلْخَبَرِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَا يَكُونُ لَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ قَوْلُهُ (إذْ الْعَقْدُ) أَيْ اعْتِقَادُ الْقَلْبِ فَضْلٌ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ بِدُونِ عَقْدِ الْقَلْبِ كَعِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِحَقِّيَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِهِمْ حَقِّيَّتَهُ، وَكَعِلْمِنَا بِدَلَائِلِ الْخُصُومِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَهَا وَعَلَى الْعَكْسِ، وَالْعَقْدُ قَدْ يَكُونُ بِدُونِ الْعِلْمِ أَيْضًا كَاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُوجِبًا لِلِاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ.
قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ فَإِنَّ الْعَمَلَ نَوْعَانِ عَمَلُ الْجَوَارِحِ وَاعْتِقَادُ الْقَلْبِ فَالْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ إنْ تَعَذَّرَ لَمْ يَتَعَذَّرْ الْعَمَلُ بِالْقَلْبِ اعْتِقَادًا عَلَى أَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا عَذَابَ الْقَبْرِ بِدَلَالَاتِ النُّصُوصِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَإِشَارَاتِهَا لَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِعَقْدِ الْقَلْبِ يَصِحُّ بِدُونِ عَمَلِ الْبَدَنِ جَوَّزْنَا النَّسْخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ لِحُصُولِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ الِابْتِلَاءُ لِعَقْدِ الْقَلْبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً]
[الرَّاوِي الْمَعْرُوفُ]
(بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً) :
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَبُولِ التَّصْدِيقُ، وَلَا بِالرَّدِّ التَّكْذِيبُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا قَبُولُ قَوْلِ الْعَدْلِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ كَاذِبًا أَوْ غَالِطًا، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ قَوْلِ الْفَاسِقِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ صَادِقًا بَلْ الْمَقْبُولُ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْمَرْدُودُ مَا لَا تَكْلِيفَ عَلَيْنَا فِي الْعَمَلِ بِهِ ثُمَّ لِلْقَبُولِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ بَعْضِ شَرَائِطِهِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الرَّاوِي مَعْرُوفًا بِالرِّوَايَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْفَقَاهَةِ لِقَبُولِ خَبَرِهِ مُطْلَقًا، مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ أَوْ مُخَالِفًا وَلَيْسَتْ الْفَقَاهَةُ فِيهِ شَرْطًا عِنْدَ الْبَعْضِ.
أَمَّا الْمَعْرُوفُونَ يَعْنِي بِالْفِقْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَوْلُهُ (وَحَدِيثُهُمْ حُجَّةٌ إنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَوْ خَالَفَهُ) وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنْ وَافَقَهُ تَأَيَّدَ بِهِ أَيْ قَوِيَ الْحَدِيثُ بِالْقِيَاسِ يَعْنِي يَكُونُ التَّمَسُّكُ بِالْحَدِيثِ لَا بِالْقِيَاسِ بَلْ يَكُونُ الْقِيَاسُ مُؤَيِّدًا لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا يُحْكَى عَنْهُ: بَلْ الْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَدِيثِ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُشْتَهَرْ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْهُ قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لَا يُقْبَلُ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ سَمْجٌ مُسْتَقْبَحٌ عَظِيمٌ، وَأَنَا أُجِلُّ مَنْزِلَةَ مَالِكٍ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَلَا يُدْرَى ثُبُوتُهُ مِنْهُ.
وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّ الْقِيَاسَ إذَا عَارَضَهُ خَبَرُ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسِ مَنْصُوصَةً بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَنْفِي مُوجِبَهَا، وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ كَالنَّصِّ عَلَى حُكْمِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَارِضَهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ.
وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً بِنَصٍّ ظَنِّيٍّ يَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ وَيَكُونُ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْحُكْمِ بِصَرِيحِهِ وَالْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى الْعِلَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً مِنْ أَصْلٍ ظَنِّيٍّ كَانَ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ وَالِاحْتِمَالَ كُلَّمَا كَانَ أَقَلَّ كَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ وَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً مِنْ أَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَالْخَبَرُ الْمُعَارِضُ لِلْقِيَاسِ خَبَرُ وَاحِدٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ