لِأَنَّ الْعِيَانَ يَرُدُّهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَهَذَا أَوْلَى؛ وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُحْتَمَلٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدْ سَفَّهُ نَفْسَهُ، وَأَضَلَّ عَقْلَهُ.
وَإِذَا اجْتَمَعَ الْآحَادُ حَتَّى تَوَاتَرَتْ حَدَثَ حَقِّيَّةَ الْخَبَرِ وَلُزُومُ الصِّدْقِ بِاجْتِمَاعِهِمْ، وَذَلِكَ وَصْفٌ حَادِثٌ مِثْلُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ إذَا ازْدَحَمَتْ الْآرَاءُ سَقَطَتْ الشُّبْهَةُ فَأَمَّا الْآحَادُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ دُونَهُ لَكِنَّهُ يُوجِبُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنْ الْعَمَلِ أَيْضًا، وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَأَنَّ فُلَانًا وَكَّلَنِي بِبَيْعِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ بَيْعِ هَذَا الشَّيْءِ.
وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ مَنْ لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِ مَعَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي إبَاحَةِ دَمٍ، وَإِقَامَةِ حَدٍّ وَاسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ. وَعَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُفْتِي لِلْمُسْتَفْتِي مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ بِمَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّسُولِ بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَإِذَا جَازَ الْقَبُولُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا جَازَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ. فَإِنْ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ ثَابِتٌ فَإِنَّ فِي بَعْضِ الْمُعَامَلَاتِ قَدْ يُقْبَلُ خَبَرُ مَنْ يَسْكُنُ الْقَلْبُ إلَى صِدْقِهِ مِنْ صَبِيٍّ، وَفَاسِقٍ بَلْ كَافِرٍ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ هَؤُلَاءِ فِي أَخْبَارِ الدِّينِ فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهَذَا الْفَصْلِ مَعَ وُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. قُلْنَا مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ اسْتِعْمَالُ قَوْلِ مَنْ لَا يُؤْمَنُ الْغَلَطُ عَلَيْهِ وَوُقُوعُ الْكَذِبِ مِنْهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُتَسَاهَلُ فِيهِ فِي الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ الْوَصْفُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ دُونَ مَا عَدَاهُ.
وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ، وَأَخْبَارِ الدِّينِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْأَخْبَارِ لِتَحَقُّقِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَلَوْ رُدَّ خَبَرُ الْوَاحِدِ لِشُبْهَةٍ فِي النَّقْلِ لَتَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ فَأَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْقِيَاسِ وَالشَّهَادَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْآيَتَيْنِ فَنَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الْمَنْعُ عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ مُطْلَقًا بَلْ الْمُرَادُ الْمَنْعُ عَنْ اتِّبَاعِهِ فِيمَا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَوْ فُرُوعِهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] . مَنْعُ الشَّاهِدِ عَنْ جَزْمِ الشَّهَادَةِ إلَّا بِمَا يَتَحَقَّقُ. عَلَى أَنَّا مَا اتَّبَعْنَا الظَّنَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْعِيَانَ يَرُدُّهُ) أَرَادَ بِهِ أَنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا عَدَمَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ كَمَا نَجِدُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالْمُتَوَاتِرِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّا لَا نُصَدِّقُ بِكُلِّ مَا نَسْمَعُ، وَلَوْ صَدَّقْنَاهُ لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُ بِالضِّدَّيْنِ. قَالَ، وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ يُورِثُ الْعِلْمَ لَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ إذْ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعْلُومُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ أَوْجَبَهُ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ أَوْ سَمَّوْا الظَّنَّ عِلْمًا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ يُورِثُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ، وَالْعِلْمُ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ.
قَوْلُهُ (وَإِذَا اجْتَمَعَ الْآحَادُ حَتَّى تَوَاتَرَتْ) إلَى آخِرِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا ذُكِرَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كَلَامِ الْخُصُومِ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ صَارَ جَمْعًا بِالْآحَادِ وَخَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْيَقِينُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُتَمَسَّكُ لِمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِثُبُوتِ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ لَمَّا أَوْجَبَ الْعِلْمَ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا اجْتِمَاعُ الْآحَادِ لَزِمَ أَنْ يُوجِبَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلِاجْتِمَاعِ فِي تَغْيِيرِ ذَوَاتِ الْأَفْرَادِ فَإِنَّ الْغَنَمَ الْمُجْتَمِعَةَ لَا تَصِيرُ بَقَرًا، وَإِبِلًا بِالِاجْتِمَاعِ وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي الْمَحْسُوسِ وَالْمَعْقُولِ وَالْمَشْرُوعِ أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ بِاجْتِمَاعِ الْأَفْرَادِ مَا لَا يَثْبُتُ بِالْأَفْرَادِ بِدُونِ الِاجْتِمَاعِ فَإِنَّ بِاجْتِمَاعِ الطَّاقَاتِ فِي الْحَبْلِ يَحْدُثُ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي طَاقَةٍ أَوْ طَاقَتَيْنِ، وَبِاجْتِمَاعِ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّادِقَةِ تَثْبُتُ الْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي إفْرَادِهَا، وَبِاجْتِمَاعِ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ صَارَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا، وَلَا يُوجَدُ الْإِعْجَازُ فِي آحَادِهَا.
وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةٍ عَلَى الْقَاضِي مَا لَا يَجِبُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ. وَيَثْبُتُ بِغُسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ