للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا غَيْرَ حَدِيثٍ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَاخْتَصَرْنَا عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِوُضُوحِهَا وَاسْتِفَاضَتِهَا، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ الْوُكَلَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْمُضَارِبِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْخَبَرَ يَصِيرُ حُجَّةً بِصِفَةِ الصِّدْقِ، وَالْخَبَرُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَبِالْعَدَالَةِ بَعْدَ أَهْلِيَّةِ الْأَخْبَارِ يَتَرَجَّحُ الصِّدْقُ وَبِالْفِسْقِ الْكَذِبُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ لِيَصِيرَ حُجَّةً لِلْعَمَلِ وَيُعْتَبَرُ احْتِمَالُ السَّهْوِ وَالْكَذِبِ لِسُقُوطِ عِلْمِ الْيَقِينِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْيَقِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ صَحِيحٌ بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَعَمَلَ الْحُكَّامِ بِالْبَيِّنَاتِ صَحِيحٌ بِلَا يَقِينٍ فَكَذَلِكَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ الْعَدْلِ يُفِيدُ عِلْمًا بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَذَلِكَ كَافٍ لِلْعَمَلِ، وَهَذَا ضَرْبُ عِلْمٍ فِيهِ اضْطِرَابٌ فَكَانَ دُونَ عِلْمِ الطُّمَأْنِينَةِ.

وَأَمَّا دَعْوَى عِلْمِ الْيَقِينِ بِهِ فَبَاطِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ

ــ

[كشف الأسرار]

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ، وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا إذْ أَتَانَا آتٍ، وَقَالَ الْخَمْرُ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ إلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا فَقُمْتُ إلَى مُهْرٍ لَيْسَ لَنَا فَضَرَبْتُهَا إلَى أَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ. وَمِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ مَعَ عَمَلِ أَهْلِ قُبَاءَ فِي التَّحَوُّلِ عَنْ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ حَيْثُ أَخْبَرَهُمْ وَاحِدٌ أَنَّ الْقِبْلَةَ نُسِخَتْ.

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَمْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ فَانْتَهَيْنَا. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ سُنَّةُ التَّابِعِينَ كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَّارٍ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَّارٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَفُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ، وَفُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ كَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَتَابِعِيهِمْ كَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالشَّعْبِيِّ وَمَسْرُوقٍ. وَعَلَيْهِ جَرَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحَدٍ فِي عَصْرٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ لَكِنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى كَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِسَخَاءِ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ فَلَا يَكُونُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً فَيَدُورُ.، وَلَئِنْ قَالَ الْخُصُومُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِهَا بَلْ لَعَلَّهُمْ عَلِمُوا بِغَيْرِهَا مِنْ نُصُوصٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ أَخْبَارِ آحَادٍ مَعَ مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ الْمَقَايِيسِ، وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ مِنْ سِيَاقِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُمْ إنَّمَا عَلِمُوا بِهَا عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا لَقَضَيْنَا بِرَأْيِنَا وَحَيْثُ قَالَ ابْنُهُ حَتَّى رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ إلَى آخِرِهِ. فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ قَبُولِهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُعَارَضٌ بِإِنْكَارِهِمْ إيَّاهُ فِي وَقَائِعَ كَثِيرَةٍ. فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْكَرَ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى انْضَمَّ إلَيْهِ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَأَنْكَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي السُّكْنَى.، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَرَدَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ قُلْنَا إنَّهُمْ إنَّمَا أَنْكَرُوا لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ مِنْ وُجُودِ مُعَارِضٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ لَا لِعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي جِنْسِهَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْأَصْلِ كَمَا أَنَّ رَدَّهُمْ بَعْضَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَتَرْكَهُمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ وَرَدَّ الْقَاضِي بَعْضَ الشَّهَادَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْأَصْلِ.

قَوْلُهُ (قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي هَذَا) أَيْ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرَ حَدِيثٍ أَيْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَكْثَرَهَا فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ. وَاخْتَصَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ أَيْ اكْتَفَيْنَا بِإِيرَادِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ بَرِيرَةَ وَسَلْمَانَ وَتَبْلِيغِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهَا لِوُضُوحِهَا. أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ تَذْكُرْ مَا أَوْرَدَهُ مُحَمَّدٌ لِشُهْرَتِهَا. وَلَفْظُ التَّقْوِيمِ وَنَحْنُ سَكَتْنَا عَنْهَا اخْتِصَارًا وَاكْتِفَاءً بِمَا فَعَلَ النَّاسُ قَوْلُهُ (وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى) كَذَا أَيْ الْإِجْمَاعُ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الْقَبُولِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ انْعَقَدَ مِنْهُمْ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا بُنِيَتْ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْإِخْبَارِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ أَهْدَى إلَيْكَ فُلَانٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>