للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَمَا ثَبَتَ بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً لَا اجْتِهَادًا وَلَا اسْتِنْبَاطًا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] هَذَا قَوْلٌ مَعْلُومٌ بِظَاهِرِهِ مَعْلُومٌ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ الْأَذَى

ــ

[كشف الأسرار]

(فَإِنْ قِيلَ) الْعَادَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ فِي مَقَامِ بَيَانِ الْمِنَّةِ ذِكْرُ الْأَكْثَرِ الْمُعْتَادِ لَا ذِكْرُ الْأَقَلِّ النَّادِرِ كَمَا فِي جَانِبِ الْفِصَالِ (قُلْنَا) قَدْ قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمَلَتْهُ أُمُّهُ بِمَشَقَّةٍ ثُمَّ وَضَعَتْهُ عَلَى تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْحَسَنِ أَوْ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَضَعَتْهُ أُمُّهُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْمُدَّةِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ ذِكْرُ مَا وَرَائِهَا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْكَذِبِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَعِيشُ إذَا وُلِدَ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَكُونُ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً لَا مَحَالَةَ فِي حَقِّ كُلِّ مُخَاطَبٍ فَيَكُونُ اعْتِبَارُ مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ؛ لِكَوْنِهِ مُلْزِمًا لِلْمِنَّةِ لَا مَحَالَةَ أَدْخَلُ فِي بَابِ الْمُنَاسَبَةِ بِخِلَافِ الْفِصَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِجَانِبِ الْقِلَّةِ فِيهِ بَلْ لَا تَيَقُّنَ فِي نَفْسِ الرَّضَاعِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ ارْتِضَاعٍ مِنْ الْأُمِّ فَلَا جَرَمَ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْأَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ إذْ الرَّضَاعُ اخْتِيَارِيٌّ وَالشَّفَقَةُ حَامِلَةٌ عَلَى تَكْمِيلِ الْمُدَّةِ فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ قَدْ حَمَلَتْهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَا مَحَالَةَ إنْ لَمْ تَحْمِلْهُ أَكْثَرَ مِنْهَا وَأَرْضَعَتْهُ سَنَتَيْنِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْسَانُ إلَيْهَا، دَلَالَةُ النَّصِّ هِيَ فَهْمُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَمَقْصُودِهِ، وَقِيلَ هِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَنْصُوصِ وَغَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَيُسَمِّيهَا عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ فَحْوَى الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ فَحْوَى الْكَلَامِ مَعْنَاهُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَفِي الْأَسَاسِ عَرَفْت فِي فَحْوَى كَلَامِهِ أَيْ فِيمَا تَنَسَّمْت مِنْ مُرَادِهِ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفِحَاءِ، وَهُوَ أَبْزَارُ الْقِدْرِ، وَيُسَمِّيهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُوَافِقٌ لِمَدْلُولِهِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ

[الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ]

قَوْلُهُ (بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً) أَيْ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ لَا بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، وَلُغَةً تَمْيِيزٌ، لَا اجْتِهَادًا وَلَا اسْتِنْبَاطًا تَرَادُفٌ وَهَذَا نَفْيُ كَوْنِهِ قِيَاسًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ إذَا عُرِفَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ كَمَا عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ وَالنَّهْرِ كَفُّ الْأَذَى عَنْ الْوَالِدَيْنِ؛ لِأَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ لِبَيَانِ احْتِرَامِهِمَا فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَكَمَا عُرِفَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَحْرِيمِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ فِي قَوْله تَعَالَى، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: ١٠] ، تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهَا فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْإِحْرَاقِ وَالْإِهْلَاكِ أَيْضًا وَلَوْلَا هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ لَمَا لَزِمَ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ إذْ قَدْ يَقُولُ السُّلْطَانُ لِلْجَلَّادِ إذَا أَمَرَهُ بِقَتْلِ مَلِكٍ مُنَازِعٍ لَهُ لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَلَكِنْ اُقْتُلْهُ لِكَوْنِ الْقَتْلِ أَشَدَّ فِي دَفْعِ مَحْذُورِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ التَّأْفِيفِ وَيَقُولُ الرَّجُلُ وَاَللَّهِ مَا قُلْت لِفُلَانٍ أُفٌّ وَقَدْ ضَرَبَهُ، وَاَللَّهِ مَا أَكَلْت مَالَ فُلَانٍ وَقَدْ أَحْرَقَهُ فَلَا يَحْنَثُ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مَعْلُومًا قَطْعًا كَمَا فِي تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ فَالدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةٌ؛ وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ هُوَ الْمَقْصُودُ كَمَا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَهِيَ ظَنِّيَّةٌ، وَلَمَّا تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى وَلَا بُدَّ فِي مَعْرِفَتِهِ مِنْ نَوْعِ نَظَرٍ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الدَّلَالَةَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ فَقَالُوا لَمَّا تَوَقَّفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ وُجِدَ أَصْلٌ كَالتَّأْفِيفِ مَثَلًا وَفَرْعٌ كَالضَّرْبِ وَعِلَّةٌ جَامِعَةٌ مُؤَثِّرَةٌ كَدَفْعِ الْأَذَى يَكُونُ قِيَاسًا إذْ لَا مَعْنَى لِلْقِيَاسِ إلَّا ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرًا سَمَّيْنَاهُ جَلِيًّا، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا

<<  <  ج: ص:  >  >>