وَهَذَا مَعْنًى يُفْهَمُ مِنْهُ لُغَةً حَتَّى شَارَكَ فِيهِ غَيْرُ الْفُقَهَاءِ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ كَمَعْنَى الْإِيلَامِ مِنْ الضَّرْبِ ثُمَّ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَانَ مَعْنًى لَا عِبَارَةً لَمْ نُسَمِّهِ نَصًّا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَبَتَ بِهِ لُغَةً لَا اسْتِنْبَاطًا يُسَمَّى دَلَالَةً وَأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ النَّصِّ،
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ الْفَرْعِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذَا النَّوْعِ مَا تَخَيَّلُوهُ أَصْلًا جُزْءًا مِمَّا تَخَيَّلُوهُ فَرْعًا كَمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا ذَرَّةً فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ إعْطَاءِ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ مَعَ أَنَّ الذَّرَّةَ الْمَنْصُوصَةَ دَاخِلَةٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ شَرْعِ الْقِيَاسِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ مِنْ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ وَنُفَاتِهِ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ لِفَهْمِ الْمَعْنَى مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَوْ الظَّنِّ قَوْلُهُ (وَهَذَا مَعْنًى يُفْهَمُ مِنْهُ لُغَةً) أَيْ الْأَذَى يُفْهَمُ مِنْ التَّأْفِيفِ لُغَةً لَا رَأْيًا كَمَعْنَى الْإِيلَامِ مِنْ الضَّرْبِ يَعْنِي إذَا قِيلَ اضْرِبْ فُلَانًا أَوْ لَا تَضْرِبْهُ يُفْهَمُ مِنْهُ لُغَةً أَنَّ الْمَقْصُودَ إيصَالُ الْأَلَمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ إلَيْهِ أَوْ مَنْعُهُ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُهُ فَضَرَبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبُهُ فَلَمْ يَضْرِبْهُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبَرَّ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْأَذَى مِنْ التَّأْفِيفِ، ثُمَّ تَعَدَّى حُكْمُهُ أَيْ حُكْمُ التَّأْفِيفِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ إلَى الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى لِلتَّيَقُّنِ بِتَعَلُّقِ الْحُرْمَةِ بِهِ لَا بِالصُّورَةِ حَتَّى إنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَوْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ هَذَا فِي لُغَتِهِمْ إكْرَامٌ لَمْ يُثْبِتْ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّهِ، وَلَمَّا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْإِيذَاءِ فِي التَّأْفِيفِ صَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنْ قِيلَ لَا تُؤْذِهِمَا فَثَبَتَ الْحُرْمَةُ عَامَّةً.
وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّمَ التَّأْفِيفَ لِلْوَالِدَيْنِ؛ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنَاهُ أَوْ اسْتَعْمَلَهُ بِجِهَةِ الْإِكْرَامِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ لَا لِلْمَعْنَى كَمَا فِي أَدَاءِ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ قِيمَتُهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَنْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَعْنَى ثَابِتًا بِالِاجْتِهَادِ فَيَكُونُ ظَنِّيًّا وَأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَطْعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَعْنَى ثَابِتًا بِالنَّصِّ وَعُرِفَ قَطْعًا أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَالْحُكْمُ يَدُورُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا غَيْرُ كَطَهَارَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ لِمَا تَعَلَّقَتْ بِالطَّوْفِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ» الْحَدِيثُ كَانَ سُؤْرُ الْهِرَّةِ الْوَحْشِيَّةِ نَجِسًا مَعَ قِيَامِ النَّصِّ لِعَدَمِ الطَّوْفِ، وَحَاصِلٌ فَرْقِ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْمَفْهُومَ بِالْقِيَاسِ نَظَرِيٌّ وَلِهَذَا شُرِطَ فِي الْقَائِسِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ أَوْ بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّا نَجِدُ أَنْفُسَنَا سَاكِنَةً إلَيْهِ فِي أَوَّلِ سَمَاعِنَا هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَلِهَذَا شَارَكَ أَهْلُ الرَّأْيِ غَيْرَهُمْ فِيهِ فَلَا يَكُونُ قِيَاسًا لِانْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ. قَوْلُهُ (وَأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ النَّصِّ) أَيْ هَذَا النَّوْعُ، وَهُوَ دَلَالَةُ النَّصِّ يَثْبُتُ بِهِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مَا يَثْبُتُ بِالنُّصُوصِ حَتَّى الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَكَذَا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ قِيَاسًا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ، فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ قِيَاسًا مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَا يُثْبِتُ بِهِ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَنَا فَهَذَا هُوَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ.
وَسَمِعْت عَنْ شَيْخِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَهُوَ كَانَ أَعْلَى كَعْبًا مِنْ أَنْ يُجَازِفَ أَوْ يَتَكَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ كَمَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَيَكُونُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْقِسْمِ قِيَاسًا وَيَبْعُدُ تَسْمِيَتُهُ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى فِكْرَةٍ وَاسْتِنْبَاطِ عِلَّةٍ، وَمَنْ سَمَّاهُ قِيَاسًا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَسَامِي فَمَنْ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute