أُخِذَتْ مِنْ قَوْلِهِمْ كَنَّيْت وَكَنَوْتُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَأَكْنُو عَنْ قَذُورٍ بِغَيْرِهَا ... وَأُعْرِبُ أَحْيَانًا بِهَا فَأُصَارِحُ
وَهَذِهِ جُمْلَةٌ يَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي بَابِ بَيَانِ الْحُكْمِ.
وَتَفْسِيرُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعِبَارَةِ النَّصِّ
ــ
[كشف الأسرار]
الْكِنَايَةِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَكُنِّي عَنْ الْحَبَشِيِّ بِأَبِي الْبَيْضَاءِ وَعَنْ الضَّرِيرِ بِأَبِي الْعَيْنَاءِ وَلَا اتِّصَالَ بَيْنَهُمَا بَلْ بَيْنَهُمَا تَضَادٌّ، مِثْلُ هَاءِ الْمُغَايَبَةِ وَسَائِرِ أَلْفَاظِ الضَّمِيرِ مِثْلُ أَنَا وَأَنْتَ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تُمَيِّزْ بَيْنَ اسْمٍ وَاسْمٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى لَمْ تَكُنْ صَرِيحَةً وَلَمَّا احْتَمَلَتْ التَّمْيِيزَ بِدَلَالَةٍ اسْتَقَامَتْ كِنَايَةً عَنْ الصَّرِيحِ فَكَانَتْ أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ مِنْ الصَّرِيحِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْمُفَسَّرِ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَلْفَاظَ الْكِنَايَةِ مِمَّا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى وَالصَّرِيحُ اسْمٌ لِمَا فُهِمَ مَعْنَاهُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ زَادَ قَيْدَ الِاسْتِعْمَالِ فِي التَّعْرِيفِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كِنَايَاتٌ بِالْوَضْعِ لَا بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَا تَكُونُ دَاخِلَةً فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا إنَّمَا وُضِعَتْ لِيَسْتَعْمِلَهَا الْمُتَكَلِّمُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ لَا يُصَرِّحَ بِاسْمِ زَيْدٍ مَثَلًا يَكُنِّي عَنْهُ بِهُوَ كَمَا يَكُنِّي عَنْهُ بِأَبِي فُلَانٍ لَا أَنَّهَا كِنَايَاتٌ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ فَكَمَا أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ لَا تَكُونُ حَقِيقَةً قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا يَكُونُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كِنَايَاتٍ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ أَيْضًا فَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي التَّعْرِيفِ قَوْلُهُ (أُخِذَتْ أَيْ الْكِنَايَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ كَنَّيْت وَكَنَوْتُ) وَقَعَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفِعْلِ عِنْدَهُمْ وَالْفِعْلُ هُوَ الْأَصْلُ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فَالْمَصْدَرُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ.
ثُمَّ إنْ كَانَتْ لَامُ الْكَلِمَةِ يَاءً، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَهِيَ فِي الْكِنَايَةِ أَصْلِيَّةٌ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَالسِّقَايَةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ وَاوًا وَهِيَ لُغَةٌ فِيهَا غَيْرُ مَشْهُورَةٍ؛ وَلِهَذَا اسْتَشْهَدَ لَهَا دُونَ الْيَاءِ فَهِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ الْوَاوِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا انْقَلَبَتْ الْوَاوُ عَنْهَا فِي جَبَيْت الْخَرَاجَ جِبَاوَةً وَالْأَصْلُ جِبَايَةً، وَالْكِنَايَةُ لُغَةً أَنْ تَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ وَتُرِيدُ بِهِ غَيْرَهُ فَهِيَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُقَرَّرَةِ، وَالْقَذُورُ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَجْتَنِبُ الْأَقْذَارَ وَالرِّيَبَ، وَأَعْرَبَ بِحُجَّتِهِ أَيْ أَفْصَحَ بِهَا مِنْ غَيْرِ تُقْيَةٍ مِنْ أَحَدٍ، وَالْمُصَارَحَةُ الْمُجَاهَرَةُ، يَعْنِي أَنِّي رُبَّمَا أَذْكُرُ غَيْرَهَا وَأُرِيدُهَا خَوْفًا مِنْ عَشِيرَتِهَا وَإِخْفَاءً لِمَحَبَّتِي إيَّاهَا وَرُبَّمَا غَلَبَنِي سُكْرُ الْمَحَبَّةِ فَأُفْصِحُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تُقْيَةٍ مِنْ أَحَدٍ وَأَذْكُرُهَا صَرِيحًا، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ أَيْ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَالصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ يَأْتِي تَفْسِيرُهَا أَيْ تَمَامُ تَفْسِيرِهَا
[الْقَسْم الرَّابِع وُجُوه وُقُوف السَّامِع عَلَى مُرَاد الْمُتَكَلِّم ومعانى الْكَلَام]
[الِاسْتِدْلَالَ بِعِبَارَةِ النَّصِّ]
قَوْلُهُ (وَتَفْسِيرُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ) أَيْ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ التَّقْسِيمِ أَوْ الْخَامِسِ بِاعْتِبَارِ الْمُقَابِلِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعِبَارَةِ النَّصِّ أَيْ بِعَيْنِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الثَّابِتُ بِعَيْنِ النَّصِّ مَا أَوْجَبَهُ نَفْسُ الْكَلَامِ وَسِيَاقُهُ، وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ أَيْضًا فَتَكُونُ هَذِهِ الْإِضَافَةُ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ كَمَا فِي قَوْلِك جَمِيعُ الْقَوْمِ وَكُلُّ الدَّرَاهِمِ وَنَفْسُ الشَّيْءِ، وَالِاسْتِدْلَالُ انْتِقَالُ الذِّهْنِ مِنْ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ وَقِيلَ عَلَى الْعَكْسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَهُنَا، وَالْعِبَارَةُ لُغَةً تَفْسِيرُ الرُّؤْيَا يُقَالُ عَبَرْت الرُّؤْيَا أَعْبُرُهَا عِبَارَةً أَيْ فَسَّرْتهَا، وَكَذَا عَبَرْتهَا، وَعَبَرْت عَنْ فُلَانٍ إذَا تَكَلَّمْت عَنْهُ فَسُمِّيَتْ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي عِبَارَاتٍ؛ لِأَنَّهَا تُفَسِّرُ مَا فِي الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ مَسْتُورٌ كَمَا أَنَّ الْمُعَبِّرَ يُفَسِّرُ مَا هُوَ مَسْتُورٌ، وَهُوَ عَاقِبَةُ الرُّؤْيَا؛ وَلِأَنَّهَا تَكَلُّمٌ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ اسْمَ النَّصِّ عَلَى كُلِّ مَلْفُوظٍ مَفْهُومِ الْمَعْنَى مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ مُفَسَّرًا أَوْ نَصًّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا اعْتِبَارًا مِنْهُمْ لِلْغَالِبِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَا وَرَدَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ نُصُوصٌ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ النَّصِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute