للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّأْخِيرُ لِطَلَبِ الرِّفْقِ بَيْنَ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ عُبُودِيَّةً لَا رُبُوبِيَّةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ بِالسَّفَرِ إذَا اتَّصَلَ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ الْأَدَاءُ فَظَهَرَ فِي قَضَائِهِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ فَلَا وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ مُوجِبًا ضَرُورَةً لَازِمَةً قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى الصِّيَامَ فِي رَمَضَانَ وَشَرَعَ فِيهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا تَكَلَّفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ حَلَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ ضَرُورِيٌّ لِلْمَشَقَّةِ وَهَذَا مَوْضُوعٌ لَهَا وَلَكِنَّهُ إذَا أَفْطَرَ كَانَ قِيَامُ السَّفَرِ الْمُبِيحِ عُذْرًا وَشُبْهَةً فِي الْكَفَّارَةِ وَإِذَا أَصْبَحَ مُقِيمًا وَعَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ وَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَإِذَا أَفْطَرَ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ الْمَرَضِ لِمَا قُلْنَا إنَّ السَّفَرَ مُكْتَسَبٌ وَهَذَا سَمَاوِيٌّ وَأَحْكَامُ السَّفَرِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ السَّفَرُ عِلَّةً بَعْدُ تَحْقِيقًا لِلرُّخْصَةِ.

ــ

[كشف الأسرار]

دُونَ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِي الْمَشْرُوعِ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّقَرُّبِ، وَصِفَةُ الْحِلِّ فِي السَّبَبِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى صِفَةِ الْحِلِّ لِيَصْلُحَ سَبَبًا لِلْمَشْرُوعِ، وَمُنَافَاةُ النَّهْيِ الْقُرْبَةُ أَقْوَى مِنْ مُنَافَاتِهِ الْحِلَّ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الطَّلَبِ وَالنَّدْبِ وَالْحِلُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِبَاحَةِ فَكَانَ النَّهْيُ الَّذِي هُوَ لِلْمَنْعِ أَقْوَى مُنَافَاةً لِلطَّلَبِ مِنْ مُنَافَاتِهِ لِلْحِلِّ ثُمَّ النَّهْيُ الَّذِي وَرَدَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُوجِبَ زَوَالَ صِفَةِ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَشْرُوعِ وَلَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَهُ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَلَأَنْ لَا يُوجِبَ زَوَالَ صِفَةِ الْحِلِّ عَنْ السَّبَبِ وَلَا يَمْنَعَ تَحَقُّقَهُ كَانَ أَوْلَى أَوْ يُقَالُ زَوَالُ صِفَةِ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَشْرُوعِ بِمِثْلِ هَذَا النَّهْيِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْمَشْرُوعِ كَالطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ زَوَالَ صِفَةِ الْحِلِّ عَنْ السَّبَبِ بِهَذَا النَّهْيِ عَنْ تَحَقُّقِ السَّبَبِ كَانَ أَوْلَى كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ.

وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: ١٧٣] فِي نَفْسِ الْفِعْلِ يَعْنِي تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: ١٧٣] الْبَغْيُ وَالْعَدَاءُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ وَكَذَلِكَ أَيْ الْبَغْيُ وَالْعَدَاءُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى الْمُضْطَرُّ إلَى الْمَيْتَةِ فِي الْأَكْلِ عَمَّا يُمْسِكُ بِهِ مُهْجَتَهُ فَعَلَى هَذَا كَانَ الْبَغْيُ وَالْعَدَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّيْسِيرِ قِيلَ هُمَا وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُمَا مُجَاوَزَةُ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالتَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ١٢٨] وَقِيلَ {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: ١٧٣] أَيْ طَالِبٍ لِلْمُحَرَّمِ وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهُ وَلَا عَادٍ أَيْ مُجَاوِزٍ قَدْرَ مَا يَقَعُ بِهِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ.

وَقِيلَ هُمَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: ١٧٣] أَيْ الْمُضْطَرُّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي الْأَكْلِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: ٢٥] فَإِنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمُحْصَنَاتِ وَقِيلَ {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: ١٧٣] أَيْ مُتَلَذِّذٍ وَلَا عَادٍ أَيْ مُتَزَوِّدٍ وَفِي الْكَشَّافِ غَيْرَ بَاغٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ بِالِاسْتِيثَارِ عَلَيْهِ وَلَا عَادٍ سَدًّا لِجَوْعَةٍ فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْبَغْيِ وَالْعَدْوِ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمُحَرَّمِ فَأَكَلَهُ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي أَكْلِهِ وَصِيغَةُ الْكَلَامِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى رُجُوعِ الْبَغْيِ وَالْعَدْوِ إلَى الْأَكْلِ مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ رُجُوعِهِمَا إلَى الِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ وَحِلِّهِ فَكَانَ صَرْفُ الْبَغْيِ وَالْعَدْوِ إلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِيهِ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُ لَا فَتْوَى أَضْيَعُ مِنْ فَتْوَاهُ هَذِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَا يَأْخُذُ بِفُتْيَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ الْبَغْيِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ كَثِيرُ ضَرَرٍ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْهُ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَفِي ذَلِكَ هَلَاكُهُ ثُمَّ هَذَا مُنَاقَضَةٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْبَاغِي الْمُقِيمِ يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَإِذَا سَافَرَ هَذَا الْبَاغِي لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ الْمَسْحُ وَالْمَسْحُ كَمَا هُوَ رُخْصَةٌ فِي السَّفَرِ رُخْصَةٌ فِي الْحَضَرِ فَمَا بَالُهُ حَرَّمَ إحْدَى الرُّخْصَتَيْنِ وَأَبَاحَ الْأُخْرَى مَعَ وُجُودِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى.

[الْخَطَأُ مِنْ الْعَوَارِض الْمُكْتَسِبَة]

(الْفَصْلُ السَّادِسُ وَهُوَ الْخَطَأُ)

قَالَ الْإِمَامُ اللَّامِشِيُّ الصَّوَابُ مَا أُصِيبَ بِهِ الْمَقْصُودُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْخَطَأُ ضِدُّ الصَّوَابِ وَالْعُدُولِ عَنْهُ وَقِيلَ الْخَطَأُ فِعْلٌ أَوْ قَوْلٌ يَصْدُرُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ قَصْدِهِ بِسَبَبِ تَرْكِ التَّثَبُّتِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سِوَاهُ قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخَطَأُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ ضِدُّ الصَّوَابِ وَمِنْهُ يُسَمَّى الذَّنْبُ خَطِيئَةً وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: ٣١] هُوَ ضِدُّ الصَّوَابِ لَا ضِدُّ الْعَمْدِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ ضِدُّ الْعَمْدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: ٩٢] .

وَقَوْلُهُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ثُمَّ قَالَ وَالْخَطَأُ أَنْ يَكُونَ عَامِدًا إلَى الْفِعْلِ لَا إلَى الْمَفْعُولِ كَمَنْ رَمَى إلَى إنْسَانٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صَيْدٌ فَهُوَ قَاصِدٌ إلَى الرَّمْيِ لَا إلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>