للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا نَوَى رَفْضَهُ صَارَ مُقِيمًا وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا لَمْ يُتِمَّ عِلَّةً كَانَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ نَقْضًا لِلْعَارِضِ لِإِقَامَةِ ابْتِدَاءِ عِلَّةٍ وَإِذَا سَارَ ثُلُثًا ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ إقَامَةٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ إيجَابٍ فَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَإِذَا اتَّصَلَ بِهَذَا السَّفَرِ عِصْيَانٌ مِثْلُ سَفَرِ الْآبِقِ وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَخُّصِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَخُّصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: ١٧٣] وَلِأَنَّهُ عَاصٍ فِي هَذَا السَّبَبِ فَلَمْ يَصْلُحْ سَبَبَ رُخْصَةٍ وَجُعِلَ مَعْدُومًا زَجْرًا وَتَنْكِيلًا كَمَا سَبَقَ فِي السُّكْرِ وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ التَّرَخُّصِ مَوْجُودٌ وَهُوَ السَّفَرُ.

وَأَمَّا الْعِصْيَانُ فَلَيْسَ فِيهِ بَلْ فِي أَمْرٍ يَنْفَصِلُ عَنْهُ وَهُوَ التَّمَرُّدُ عَلَى مَنْ يَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ وَالْبَغْيُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فَإِنَّ التَّمَرُّدَ عَلَى الْمَوْلَى فِي الْمِصْرِ بِغَيْرِ سَفَرٍ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ الْبَغْيُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ صَارَ جِنَايَةً لِوُقُوعِهِ عَلَى مَحَلِّ الْعِصْمَةِ مِنْ النَّفْسِ وَالْمَالِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ هَذَا النَّوْعُ جُعِلَ عُذْرًا. اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْخَطَأِ فَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ فِي الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ غَيْرُ قَاصِدٍ الْخَطَأَ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْقَصْدِ وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ عَقْلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِأَنْ نَسْأَلَهُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ إخْبَارًا عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ أَوْ تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ٢٨٦] وَلَوْ كَانَ الْخَطَأُ غَيْرَ جَائِزِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فِي الْحِكْمَةِ لَكَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ جَوْرًا وَصَارَ الدُّعَاءُ فِي التَّقْدِيرِ رَبَّنَا لَا تَجُرْ عَلَيْنَا بِالْمُؤَاخَذَةِ لَكِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ مَعَ جَوَازِهَا فِي الْحِكْمَةِ سَقَطَتْ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا اُسْتُجِيبَ لَهُ فِي دُعَائِهِ فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ جُعِلَ عُذْرًا أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا يَعْنِي أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْصِيرٍ جُعِلَ عُذْرًا صَالِحًا لِسُقُوطِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا حَصَلَ عَنْ اجْتِهَادٍ حَتَّى لَوْ أَخْطَأَ فِي الْقِبْلَةِ بَعْدَمَا اجْتَهَدَ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَا إثْمَ وَلَوْ أَخْطَأَ فِي الْفَتْوَى بَعْدَمَا اجْتَهَدَ لَا يَأْثَمُ وَيَسْتَحِقُّ أَجْرًا وَاحِدًا وَكَذَا لَوْ رَمَى إلَى إنْسَانٍ عَلَى اجْتِهَادٍ أَنَّهُ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ لَا يَأْثَمُ الْقَتْلَ الْعَمْدَ وَإِنْ كَانَ يَأْثَمُ إثْمَ تَرْكِ التَّثَبُّتِ وَلَا يُؤَاخَذُ حَتَّى لَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ.

وَلَمْ يُجْعَلْ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي سُقُوطِ حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ خَطَأً بِأَنْ رَمَى إلَى شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا صَيْدٌ وَأَكَلَ مَالَ إنْسَانٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكُهُ يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ جَزَاءَ فِعْلٍ فَيَعْتَمِدُ عِصْمَةَ الْمَحَلِّ، وَكَوْنُهُ خَاطِئًا مَعْذُورٌ لَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ الْمَحَلِّ لَا جَزَاءُ الْفِعْلِ أَنَّ جَمَاعَةً لَوْ أَتْلَفُوا مَالَ إنْسَانٍ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ ضَمَانُ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُتْلِفُ وَاحِدًا وَلَوْ كَانَ جَزَاءُ الْفِعْلِ لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ضَمَانٌ كَامِلٌ كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَوَجَبَتْ بِهِ أَيْ بِسَبَبِ الْخَطَأِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَجَبَتْ ضَمَانٌ لِلْمَحَلِّ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا بِعُذْرِ الْخَطَإِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِي الْحَالِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَضَمَانِ الْأَمْوَالِ لَكِنَّهَا وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالْخَطَأُ فِي نَفْسِهِ عُذْرٌ صَالِحٌ فِي سُقُوطِ بَعْضِ الْحُقُوقِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ أَيْ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَدَاءُ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصِّلَاتِ عَلَى التَّوَسُّعِ وَالتَّخْفِيفِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ فِي أَصْلِ الْبَدَلِ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَوَجَبَتْ عَلَى الْخَاطِئِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُجْعَلْ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ضَرْبِ تَقْصِيرٍ وَهُوَ تَرْكُ التَّثَبُّتِ وَالِاحْتِيَاطِ فَصَلَحَ الْخَطَأُ سَبَبًا بِالْوُجُوبِ مَا يُشْبِهُ الْعِبَادَةَ وَالْعُقُوبَةَ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ قَاصِرٌ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْخَطَأِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ وَهُوَ الرَّمْيُ إلَى الصَّيْدِ مُبَاحٌ وَتَرْكُ التَّثَبُّتِ فِيهِ مَحْظُورٌ فَكَانَ قَاصِرًا فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَصَلَحَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ الْقَاصِرِ.

قَوْلُهُ (وَصَحَّ طَلَاقُ الْخَاطِئِ) بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا اسْقِنِي فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْكَلَامِ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا صَدَرَ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَبَّغَاءَ إذَا لُقِّنَ فَهُوَ وَالْآدَمِيُّ سَوَاءٌ فِي صُورَةِ الْكَلَامِ وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالْعَاقِلُ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْكَلَامِ إلَّا أَنَّهُ فَسَدَ لِعَدَمِ قَصْدِ الصَّحِيحِ وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ قَاصِدٍ فَلَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ كَطَلَاقِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا الْقَصْدُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ حَقِيقَةً بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ الدَّالِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَهْلِيَّةُ الْقَصْدِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ كَمَا فِي السَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ فَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَلَوْ قَامَ الْبُلُوغُ أَيْ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ أَيْ مَقَامَ الْعَمَلِ بِاعْتِدَالِ الْعَقْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ عَنْ قَصْدٍ يَعْنِي لَوْ كَانَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ الْقَصْدِ فِي حَقِّ طَلَاقِ الْخَاطِئِ يَصِحُّ طَلَاقُ النَّائِمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَقَامَ الْبُلُوغُ يَعْنِي عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ الرِّضَا فِيمَا يُعْتَمَدُ الرِّضَا مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا قَامَ مَقَامَ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>