للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالسَّفَرُ فِعْلٌ يَقَعُ عَلَى مَحَلٍّ آخَرَ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَخْرُجُ غَازِيًا ثُمَّ قَدْ يَسْتَقْبِلُهُ عِيرٌ فَيَبْدُو لَهُ فَيَقْطَعُ عَلَيْهِمْ فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نَهْيًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبِذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفِعْلِ مَشْرُوعًا فَلَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفِعْلِ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْحِلِّ فِي السَّفَرِ دُونَ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِي الْمَشْرُوعِ بِخِلَافِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ عِصْيَانٌ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَتَعَلَّقَ الرُّخْصَةُ بِأَثَرِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: ١٧٣] فِي نَفْسِ الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى الْمُضْطَرُّ عَنْ الَّذِي بِهِ يُمْسِكُ مُهْجَتَهُ، وَصِيغَةُ الْكَلَامِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا مِمَّا قَالَ وَأَحْكَامُ السَّفَرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى.

(الْفَصْلُ السَّادِسُ) وَهُوَ الْخَطَأُ هَذَا النَّوْعُ نَوْعٌ جُعِلَ عُذْرًا صَالِحًا لِسُقُوطِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا حَصَلَ عَنْ اجْتِهَادٍ وَشُبْهَةٍ فِي الْعُقُوبَةِ حَتَّى قِيلَ إنَّ الْخَاطِئَ لَا يَأْثَمُ وَلَا يُؤَاخَذُ بِحَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ مِنْ أَجْزِئَةِ الْأَفْعَالِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ وَلَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى وَجَبَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ عَلَى الْخَاطِئِ؛

لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ لَا جَزَاءُ فِعْلٍ

ــ

[كشف الأسرار]

الرِّضَا أَمْرٌ بَاطِنٌ كَالْقَصْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَحَيْثُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَقِيقَةُ الْقَصْدِ كَحَقِيقَةِ الرِّضَا وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَيْ عَنْ جَوَابِ الشَّافِعِيِّ لِكَلَامِنَا أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْأَصْلِ حَرَجٌ لِخَفَائِهِ فَيُنْقَلُ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ إلَى دَلِيلٍ وَيُقَامُ مَقَامَ الْمَدْلُولِ تَيْسِيرًا وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ وَأَحَدُ الشَّرْطَيْنِ فِي حَقِّ النَّائِمِ مَفْقُودٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْعَمَلِ بِأَصْلِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ يُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ النَّوْمَ يُنَافِي أَصْلَ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ مَانِعٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ نُورِ الْعَقْلِ فَكَانَتْ أَهْلِيَّةُ الْقَصْدِ مَعْدُومَةً بِيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فِي دَرْكِهِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ إقَامَةُ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ الْقَصْدِ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ.

وَالرِّضَا عِبَارَةٌ عَنْ امْتِلَاءِ الِاخْتِيَارِيِّ أَيْ بُلُوغِهِ نِهَايَتَهُ بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ وَنَحْوِهَا كَمَا يُفْضِي أَثَرُ الْغَضَبِ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَمَالِيقِ الْعَيْنِ وَالْوَجْهِ بِسَبَبِ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ مَعْنَى الرِّضَا مَا ذَكَرْنَا كَانَ الرِّضَا وَالْغَضَبُ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِمَا فِي حَقِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ امْتِلَاءِ الِاخْتِيَارِ وَعَنْ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ كَمَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ وَالْعُضْوِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُهُمَا فَلَمْ يَجُزْ إقَامَةُ غَيْرِ الرِّضَا وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مُقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ بَاطِنٍ بَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ ظُهُورُ أَثَرِهِ لَا بِأَهْلِيَّةِ الرِّضَا. وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الْخَطَأَ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِلْكَرَامَةِ قُلْنَا إنَّ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ اسْتَوْجَبَ بَقَاءَ الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً وَهَذَا كَرَامَةٌ ثَبَتَتْ لَهُ شَرْعًا فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْخَاطِئُ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُمَضْمِضَ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِتَمَكُّنِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ النَّاسِي.

وَإِذَا جَرَى الْبَيْعُ عَلَى لِسَانِ الْمَرْءِ خَطَأً بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ بِعْت هَذَا الْعَيْنَ بِكَذَا وَقَالَ الْآخَرُ قَبِلْت وَصَدَّقَهُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْخَطَإِ خَصْمُهُ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ يَعْنِي لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا وَلَكِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ انْعِقَادَ بَيْعِ الْمُكْرَهِ فَاسِدًا لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ وَضْعًا يَعْنِي جَرَيَانَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى لِسَانِهِ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ اخْتِيَارِيٌّ وَلَيْسَ بِطَبْعِيٍّ كَجَرَيَانِ الْمَاءِ وَطُولِ الْقَامَةِ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ لِوُجُودِ أَصْلِ الِاخْتِيَارِ وَيَفْسُدُ لِفَوَاتِ الرِّضَا أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ مَوْجُودٌ تَقْدِيرًا بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ مُقَامَ الْقَصْدِ وَلَكِنَّ الرِّضَا فَاتَتْ لِعَدَمِ الْقَصْدِ حَقِيقَةً فَيَنْعَقِدُ وَلَا يَنْفُذُ.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْفَصْلُ الْآخَرُ) مِنْ أَقْسَامِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ فَهُوَ فَصْلُ الْإِكْرَاهِ قِيلَ الْإِكْرَاهُ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْلَا الْمَحَلُّ عَلَيْهِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاؤُهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَقْسَامِ الْإِكْرَاهِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ فِي الْإِكْرَاهِ يُعْتَبَرُ مَعْنًى فِي الْمُكْرِهِ وَمَعْنًى فِي الْمُكْرَهِ وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ بِهِ.

فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكْرِهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ فَإِكْرَاهُهُ هَذَيَانٌ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكْرَهِ أَنْ يَصِيرَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ فِي إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ عَاجِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَلْجَأً مَحْمُولًا عَلَيْهِ طَبْعًا إلَّا بِذَلِكَ وَفِيمَا أُكْرِهَ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُتْلِفًا أَوْ مُزْمِنًا أَوْ مُتْلِفًا عُضْوًا أَوْ مُوجِبًا عَمَّا يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِاعْتِبَارِهِ وَفِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُمْتَنِعًا مِنْهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ إمَّا لِحَقِّهِ أَوْ لِحَقِّ إنْسَانٍ آخَرَ أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ

<<  <  ج: ص:  >  >>