للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُكَاتَبِ فِي جِنَايَاتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ لِلرِّفْقِ وَلَا رِفْقَ فِي اخْتِيَارِ الْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ وَيُخَيَّرُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدَيْنِ إمْسَاكُ رَقَبَتِهِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفِيدُ رِفْقًا وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا رِفْقَ فِي اخْتِيَارِ الْكَثِيرِ فَبَقِيَ اخْتِيَارُهُ مُطْلَقًا وَمَشِيئَةً وَهِيَ رُبُوبِيَّةٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِنْ قِيلَ فِيهِ فَضْلُ ثَوَابٍ قُلْنَا عَنْهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَمَا الثَّوَابُ إلَّا فِي حُسْنِ الطَّاعَةِ لَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ ظُهْرَ الْمُقِيمِ لَا يَزِيدُ عَلَى فَجْرِهِ ثَوَابًا وَأَنَّ ظُهْرَ الْعَبْدِ لَا يَزِيدُ عَلَى جُمُعَةِ الْحُرِّ ثَوَابًا فَكَذَلِكَ هَذَا عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ حُكْمُ الدُّنْيَا لَا يَصْلُحُ بِنَاؤُهُ عَلَى حُكْمِ الْآخِرَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ وَجْهَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَضَمَّنُ يُسْرًا مِنْ وَجْهٍ وَعُسْرًا مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ يَتَضَمَّنُ يُسْرًا مُوَافَقَةَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ يُسْرٌ بِلَا شُبْهَةٍ وَيَتَضَمَّنُ عُسْرًا بِحُكْمِ السَّفَرِ وَالتَّأْخِيرِ إلَى حَالَةِ الْإِقَامَةِ يَتَضَمَّنُ عُسْرًا مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ عُسْرُ الِانْفِرَادِ وَيُسْرًا مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِحَالِ الْإِقَامَةِ فَصَحَّ

ــ

[كشف الأسرار]

النَّهَارِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْدُومًا صَارَ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ إنَّمَا يَكُونُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّوْمَ مُسْتَحَقٌّ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مُسْتَحَقًّا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُبِيحِ إلَى آخِرِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتُهُ فَإِذَا زَالَ فِي الْبَعْضِ زَالَ فِي الْكُلِّ.

قَوْلُهُ (وَأَحْكَامُ السَّفَرِ) أَيْ الرُّخْصُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهِ ثَبَتَ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ مِنْ عُمَرَ أَنَّ الْمُصَرَّحَ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَرَخَّصُ تَرَخُّصَ الْمُسَافِرِينَ حِينَ يَخْرُجُ إلَى السَّفَرِ» وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَالَ لَوْ جَاوَزْنَا ذَلِكَ الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ.

وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُثْبِتَ الْأَحْكَامَ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ السَّفَرِ بِالْمَسِيرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتِمُّ بِهِ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ تَمَامِ الْعِلَّةِ لَكِنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ تَحْقِيقًا لِلرُّخْصَةِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ فَإِنَّ شَرْعِيَّةَ رُخَصِ السَّفَرِ لِلتَّرْفِيهِ فَلَوْ تَوَقَّفَ التَّرَخُّصُ بِهَا عَلَى تَمَامِ الْعِلَّةِ بِتَمَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَتَعَطَّلَتْ الرُّخَصُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصِدُهُ سِوَى مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ تُفِدْ فَائِدَتَهَا فِي حَقِّهِ فَتَعَلَّقَتْ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ تَعْمِيمًا لِلْحُكْمِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ وَإِثْبَاتًا لِلتَّرْفِيهِ فِي جَمِيعِ مُدَّةِ السَّفَرِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ عَدَمَ تَمَامِ السَّفَرِ عِلَّةً بِقَوْلِهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى رَفْضَ السَّفَرِ بِأَنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِصْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صَارَ مُقِيمًا حَتَّى صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِ فِي انْصِرَافِهِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا مَحَلُّ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا لَمْ يَتِمَّ عِلَّةً بِالْمَسِيرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْهُ نَقْضًا لِلْعَارِضِ وَهُوَ السَّفَرُ لَا ابْتِدَاءُ عِلَّةٍ وَصَارَ كَأَنَّ السَّفَرَ لَمْ يَكُنْ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُقِيمًا كَمَا كَانَ فَلَمْ يُشْتَرَطْ مَحَلُّ الْإِقَامَةِ. وَإِذَا سَارَ ثَلَاثًا ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ إقَامَةٍ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا أَيْ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَصْدِ إيجَابٌ أَيْ إثْبَاتُ إقَامَةٍ ابْتِدَاءً لَا نَقْضَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ فَلَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ أَيْ لَمْ يَصِحَّ الْإِيجَابُ وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَهُوَ الْمَفَازَةُ.

قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: ١٧٣] وَجْهُ تَمَسُّكِهِ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ التَّرَخُّصَ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ الْمَوْصُوفِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ أَيْ خَارِجٍ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَادٍ أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ فَبَقِيَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّ الْبَاغِي وَالْعَادِي بِأَوَّلِ الْآيَةِ كَمَا بَقِيَتْ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُضْطَرِّ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الشَّرْطُ فِي التَّرَخُّصِ بِقِصَرِ الصَّلَاةِ وَالْإِخْطَارِ وَسَائِرِ رُخَصِ السَّفَرِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَوْ بِالْقِيَاسِ أَوْ بِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ.

وَلِأَنَّهُ أَيْ الْبَاغِي وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ عَاصٍ فِي مُبَاشَرَةِ هَذَا السَّبَبِ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ مَعْصِيَةٌ فَلَمْ يَصْلُحْ سَبَبُ رُخْصَةٍ؛ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ وَهِيَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْمَعْصِيَةِ وَجُعِلَ مَعْدُومًا زَجْرًا وَعُقُوبَةً كَمَا جُعِلَ السُّكْرُ الْمَحْظُورُ مَعْدُومًا فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ التَّرَخُّصِ وَهُوَ السَّفَرُ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْخُرُوجِ وَالْقَصْدِ إلَى مَكَانِ بَعِيدٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ قَصْدِ الْإِغَارَةِ وَالتَّمَرُّدِ فَيُنْظَرُ أَنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا بِقَصْدِ الْإِغَارَةِ وَالتَّمَرُّدِ أَوْ بِقَصْدِهِ مَكَانًا بَعِيدًا عَيَّنَهُ لِلْإِغَارَةِ فِيهِ فَوَجَدْنَاهُ مُسَافِرًا بِقَصْدِهِ الْمَكَانَ الْبَعِيدَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِدُونِ قَصْدِ الْإِغَارَةِ يَصِيرُ مُسَافِرًا وَلَوْ قَصَدَ الْإِغَارَةَ بِدُونِ الْقَصْدِ إلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ لَمْ يَصِرْ مُسَافِرًا وَإِنْ طَافَ الدُّنْيَا بِهَذَا الْقَصْدِ فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرَانِ هَاهُنَا جَعَلْنَاهُ مُسَافِرًا بِقَصْدِهِ ذَلِكَ الْمَكَانَ وَأَلْغَيْنَا قَصْدَ الْإِغَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي الْكِتَابِ بِخِلَافِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ مِنْ شُرْبِهِ وَشُرْبِ مَا يُسْكِرُهُ حَرَامٌ فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ عَنْ سَفَرِ الْبَغْيِ وَسَفَرِ الْإِبَاقِ وَسَفَرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ احْتِرَازٌ عَنْ النَّهْيِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُتَّصِلٌ بِهِ وَصْفًا كَصَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ.

وَبِذَلِكَ أَيْ بِالنَّهْيِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفِعْلِ مَشْرُوعًا بِالِاتِّفَاقِ كَالصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَلَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفِعْلِ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ بِهَذَا النَّهْيِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ صِفَةَ الْحِلِّ فِي السَّبَبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>