للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ تَأْخِيرَهُ بِالسَّفَرِ لَا سُقُوطَهُ فَبَقِيَ فَرْضًا فَصَحَّ أَدَاؤُهُ وَثَبَتَ أَنَّهُ رُخْصَةُ تَأْخِيرٍ وَفِي الصَّلَاةِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ وَفَسْخٍ فَانْعَدَمَ أَدَاؤُهُ الثَّانِي أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ تُنَافِي الْمَشِيئَةَ الْمُطْلَقَةَ وَالِاخْتِيَارَ الْكَامِلَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَارِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ اخْتِيَارُ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الِاخْتِيَارُ الْمُطْلَقُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِلَا رِفْقٍ يَعُودُ إلَيْهِ وَلَا حَقَّ يَلْزَمُهُ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَالِفَ إذَا حَنِثَ فِي الْيَمِينِ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْكَفَّارَةِ لِرِفْقٍ يَخْتَارُهُ وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ ثَبَتَ لَهُ الِاخْتِيَارُ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِكْمَالِ لَكَانَ اخْتِيَارًا فِي وَضْعِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا رِفْقَ لَهُ بَلْ الرِّفْقُ وَالْيُسْرُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْقَصْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الِاخْتِيَارَ رِفْقًا كَانَ رُبُوبِيَّةً لَا عُبُودِيَّةً وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ وَخَطَأٌ بَيِّنٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ إذَا جَنَى جِنَايَةً لَمْ يُخَيَّرْ مَوْلَاهُ بَيْنَ قِيمَتِهِ وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبَيْنَ الدِّيَةِ وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ إذَا جَنَى عَبْدٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ غَرِمَ قِيمَتَهُ إذَا كَانَتْ دُونَ الْأَرْشِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ.

وَكَذَلِكَ

ــ

[كشف الأسرار]

أَوَّلِ الْوَقْتِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْوُجُوبُ يَنْفِي التَّخْيِيرَ فَإِذَا كَانَ مُسَافِرًا فِي آخِرِهِ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاةُ السَّفَرِ.

قَوْلُهُ (وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ) أَيْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ وُجُودُهَا بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُوجِبًا ضَرُورَةً لَازِمَهُ يَعْنِي بَعْدَمَا تَحَقَّقَ لَا يُوجِبُ ضَرُورَةً تَدْعُو إلَى الْإِفْطَارِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ قَادِرٌ عَلَى الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَلْحَقَهُ آفَةٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ الدَّاعِيَةَ إلَى الْفِطْرِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِإِمْكَانِ دَفْعِهَا بِالِامْتِنَاعِ عَنْ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ قِيلَ لَهُ أَيْ لِلْمُسَافِرِ إنَّ الْمُسَافِرَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ الْمُظْهَرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَلَوْ لَمْ تُذْكَرْ كَلِمَةُ لَهُ لَكَانَ أَوْضَحَ أَيْ أُجِيبَ وَأُفْتِيَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ إذَا نَوَى الصِّيَامَ فِي رَمَضَانَ وَشَرَعَ فِيهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ وَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ بِالشُّرُوعِ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَشَرَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ فَسَخَهُ قَبْلَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ كَمَنْ عَزَمَ عَلَى صَوْمِ النَّفْلِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ الصُّبْحِ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الشُّرُوعُ فِي الصَّوْمِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا تَكَلَّفَ لِلصَّوْمِ بِتَحَمُّلِ زِيَادَةِ الْمَرَضِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ حَلَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْ الْمَرَضُ سَبَبٌ ضَرُورِيٌّ لِلْمَشَقَّةِ أَيْ هُوَ يُوجِبُ مَشَقَّةً لَازِمَةً عَلَى تَقْدِيرِ الصَّوْمِ إذْ لَوْ لَمْ يُوجِبْ مَشَقَّةً لَمَا صَلُحَ سَبَبًا لِلتَّرَخُّصِ بِالْإِفْطَارِ وَكَذَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ وَهَذَا أَيْ السَّفَرُ مَوْضُوعٌ لِلْمَشَقَّةِ أَيْ أُقِيمَ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ لَا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْمَشَقَّةِ حَقِيقَةً لَا مَحَالَةَ فَكَانَتْ الْمَشَقَّةُ فِيهِ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا فَلَا تُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ نَقْضِ الصَّوْمِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ مَعَ أَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ.

وَلَكِنَّهُ أَيْ الْمُسَافِرَ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ وَإِذَا أَصْبَحَ رَجُلٌ مُقِيمًا وَعَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّوْمِ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا إنْشَاءُ السَّفَرِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَا تَقَرَّرَ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ الْمُقِيمُ حَيْثُ حَلَّ لَهُ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ مُوجِبٌ لِلْمَشَقَّةِ حَقِيقَةً فَيُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ وَإِذَا أَفْطَرَ أَيْ فِي حَالِ السَّفَرِ مَعَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِاقْتِرَانِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ بِالْفِطْرِ فَإِنَّ السَّفَرَ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ فِي الْجُمْلَةِ فَصُورَتُهُ تَمَكُّنُ شُبْهَةٍ وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ إبَاحَةً وَذُكِرَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ اعْتِبَارًا لِآخِرِ النَّهَارِ بِأَوَّلِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ فِي أَوَّلِهِ يُعَرِّي فِطْرَهُ عَنْ شُبْهَةٍ وَبَعْدَ السَّفَرِ يَقْتَرِنُ السَّبَبُ الْمُبِيحُ بِالْفِطْرِ وَلَوْ وُجِدَ هَذَا السَّبَبُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَإِذَا وُجِدَ فِي آخِرِهِ يَصِيرُ شُبْهَةً كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

وَإِذَا نَظَرَ أَيْ الْمُقِيمُ الْعَازِمُ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ بَعْدَ الْفِطْرِ مَرَضًا يُبِيحُ الْإِفْطَارَ حَيْثُ تَسْقُطُ بِهِ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ لِمَا قُلْنَا إنَّ السَّفَرَ مُكْتَسَبٌ وَلَا يُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ حَقٌّ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ وَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ حُكْمٍ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ شَرَعَا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَسْقَطَهُ بِاخْتِيَارِهِ هَذَا أَيْ الْمَرَضُ سَمَاوِيٌّ وَإِذَا وُجِدَ فِي آخِرِ النَّهَارِ يُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ لَوْ كَانَ صَائِمًا وَزَوَالُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَصِيرُ زَائِلًا مِنْ أَوَّلِهِ كَالْحَيْضِ يُعْدِمُ الصَّوْمَ مِنْ أَوَّلِهِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ حَتَّى لَوْ صَارَ السَّفَرُ خَارِجًا عَنْ اخْتِيَارِهِ أَيْضًا بِأَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَى السَّفَرِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ مُتَعَمِّدًا سَقَطَ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قِيلَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِي الْقَائِمِ وَلَمْ يَبْقَ الصَّوْمُ فَكَيْفَ يَعْمَلُ فِي الْمَعْدُومِ قُلْنَا وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ قَائِمًا لَمَا أَوْجَبَ الْإِبَاحَةَ حَقِيقَةً مِنْ أَوَّلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>