للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ سَبَبُ رُخْصَةٍ فَلَا يُبْطِلُ الْعَزِيمَةَ كَمَا قِيلَ فِي حَقِّ الصَّائِمِ وَلَنَا عَلَى مَا قُلْنَا دَلِيلَانِ ظَاهِرَانِ وَدَلِيلَانِ خَفِيَّانِ أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَأَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَصْرَ أَصْلٌ وَالْإِكْمَالَ زِيَادَةٌ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَالْأَصْلُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَزِيدَ إلَّا بِالنَّصِّ.

وَالثَّانِي أَنَّا وَجَدْنَا الْفَضْلَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ إنْ أَدَّاهُ أُثِيبَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَرَكَهُ لَا يُعَاتَبُ عَلَيْهِ وَهَذَا حَدُّ النَّوَافِلِ.

وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْخَفِيَّانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وُضِعَ عَنَّا مِثْلُ وَضْعِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ، «قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالَنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِصَدَقَةٍ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وَحَقُّ الصَّلَاةِ عَلَيْنَا حَقٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِ وَكَانَتْ صَدَقَتُهُ إسْقَاطًا مَحْضًا لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ أَرَأَيْت عَفْوَ اللَّهِ عَنَّا إلَّا تَامًّا وَهِبَتَهُ الْعِتْقَ مِنْ النَّارِ أَيَحْتَمِلُ الرَّدَّ هَذَا أَمْرٌ يُعْرَفُ بِبُدَاءَةِ الْعُقُولِ

ــ

[كشف الأسرار]

كَالْإِرْثِ فَإِسْقَاطُ حَقٍّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْتَمِلَ الرَّدَّ وَهَذَا بِخِلَافِ إبْرَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الْعِبَادِ حَيْثُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ إسْقَاطًا مَحْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ عَمَلًا بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبُولِ عَمَلًا بِجِهَةِ الْإِسْقَاطِ فَأَمَّا هَذَا فَإِسْقَاطٌ مَحْضٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِ الْخَصْمِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَالَ سَمَّاهُ صَدَقَةً وَأَمَرَ بِالْقَبُولِ فَيَتَوَقَّفُ التَّرَخُّصُ عَلَى الْقَبُولِ فَأَجَابَ بِمَا ذُكِرَ لَكَانَ اخْتِيَارًا فِي وَضْعِ الشَّرْعِ يَعْنِي لَوْ عَلَّقَ التَّرَخُّصَ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى مَعْنَى إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ لَكَانَ ذَلِكَ نَصْبَ شَرِيعَةٍ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْعِبَادِ وَصَارَ كَأَنَّ الشَّارِعَ قَالَ اُقْصُرُوا إنْ شِئْتُمْ وَهَذَا أَمْرٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَدْبٍ أَوْ إبَاحَةٍ أَوْ وُجُوبٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِرَأْيِ الْعَبْدِ بَلْ حُكْمُهُ نَافِذٌ فِي الْحَالِ وَلَوْ عَلَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا فِي الْحَالِ كَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَشِيئَةِ وَإِذَا شَاءَ الْعَبْدُ كَانَ الثُّبُوتُ مُضَافًا إلَى الْمَشِيئَةِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَشِيئَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الشُّرُوطِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَشِيئَةِ تَمْلِيكٌ وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ نَصْبِ الشَّرِيعَةِ إلَّا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ رُسُلِهِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِاخْتِيَارِ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُتَصَدِّقِ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَلِهَذَا تَعَلَّقَ بِهِ أَمَّا صَيْرُورَةُ الصَّلَاةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا فَلَيْسَ إلَيْنَا بَلْ الْأَدَاءُ إلَيْنَا وَمُبَاشَرَةُ الْعِلَلِ مِنْ سَفَرٍ وَإِقَامَةٍ دُونَ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ.

وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ الْخِيَارِ بَيْنَ الْمَشْرُوعَيْنِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ مَعَ الظُّهْرِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَكَمَا فِي أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ هُنَاكَ فِي تَعْيِينِ الْمَشْرُوعِ لَا فِي أَصْلِ الْمَشْرُوعِ أَمَّا هَاهُنَا فَلَيْسَ مَشْرُوعُ الْوَقْتِ إلَّا صَلَاةً وَاحِدَةً مَقْصُورَةً أَوْ كَامِلَةً فَمَتَى تَعَيَّنَ الْقَصْرُ مَشْرُوعًا لَمْ يَبْقَ إلَّا كَمَالٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ كَالظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّفَرَ مَتَى أَوْجَبَ الْقَصْرَ طَارِئًا لَمْ يَبْقَ الْأَرْبَعُ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ إذَا وَجَبَ السُّقُوطُ لَمْ يَبْقَ الْكَمَالُ إلَّا بِالرَّدِّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَا تَكْمُلُ الصَّلَاةُ إلَّا بِرَدِّ هَذَا الشَّرْعِ وَمَا لِلْعَبْدِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَهَذَا أَيْ إثْبَاتُ الْخِيَارِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الشَّرِكَةِ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ غَلَطٌ ظَاهِرٌ أَلَا تَرَى تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ إنَّمَا لِلْعَبْدِ اخْتِيَارُ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ فِي جِنَايَاتِهِ يَعْنِي يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ وَلَا يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْأَقَلُّ مُتَعَيِّنًا فِي هَذَا الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ احْتِرَازٌ عَنْ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْجُمُعَةِ الثَّوَابُ فِي حُسْنِ الطَّاعَةِ لَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رَكْعَتَانِ مِنْ تَقِيٍّ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ مِنْ مُخَلِّطٍ» فَكَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ ظُهْرِ الْعَبْدِ وَجُمُعَةِ الْحُرِّ ظُهْرُ الْمُقِيمِ وَظُهْرُ الْمُسَافِرِ لَا يَصِحُّ بِنَاؤُهُ عَلَى حُكْمِ الْآخِرَةِ بَلْ يَجِبُ بِنَاؤُهُ عَلَى مَا نَعْقِلُهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ لُزُومٍ وَبَرَاءَةٍ بِلَا أَدَاءً كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ فِي أَنْوَاعِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْيُسْرِ الْحَالِيِّ فِي الدُّنْيَا لَا عَلَى الثَّوَابِ.

قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا الْحُكْمُ) وَهُوَ قَصْرُ الصَّلَاةِ بِالسَّفَرِ إذَا اتَّصَلَ السَّفَرُ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ ثَبَتَ هَذَا إذْ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ الْوَقْتِ حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ أَيْ أَثَرُ السَّفَرِ فِي أَصْلِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْأَدَاءُ بِالْقَصْرِ فَظَهَرَ فِي قَضَائِهِ الَّذِي هُوَ خَلْفُهُ فَلِهَذَا لَوْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ وَفِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ وَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ السَّفَرُ بِالسَّبَبِ فَلَا أَيْ لَا يَثْبُتُ الْقَصْرُ حَتَّى لَوْ فَاتَتْهُ رُبَاعِيَةٌ فِي الْحَضَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقَارِنَ الْمَانِعَ الْمُثْبِتَ لِيَمْنَعَهُ عَنْ الْعَمَلِ فَإِذَا تَأَخَّرَ ثَبَتَ الْحُكْمُ وَتَقَرَّرَ فَلَا يَزُولُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ الرَّافِعِ وَالسَّفَرُ مَانِعٌ لَا رَافِعٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلَّى فِيهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ ثُمَّ خَرَجَ مُسَافِرًا صَلَّى أَرْبَعًا وَعِنْدَنَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ وَعِنْدَنَا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>