للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: ١٥] سِيقَ لِإِثْبَاتِ مِنَّةِ الْوَالِدَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إذَا رُفِعَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الثَّابِتُ بِعَيْنِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

عِنْدَ الْحَاجَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ إنْ كَانَتْ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَبِعِوَضٍ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ وَإِنَّ لَهُ تَأْوِيلًا فِي نَفْسِهِ فَلَا يُعَاقَبُ بِإِتْلَافِ وَلَدِهِ كَمَا لَا يُعَاقَبُ بِإِتْلَافِ عَبْدِهِ وَقَدْ عُرِفَ تَحْقِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ فَالنَّصُّ الْمَذْكُورُ بِإِشَارَتِهِ أَيَّدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَآزَرَهُ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْحَدِيثِ الْكِتَابَ مِنْ دَلَائِلِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «وَمَا وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ» .

فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَأَشَارَ إلَى قَوْلِهِ «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» قَوْله تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الأحقاف: ١٥] الْمُرَادُ بَيَانُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ لَا الْفِطَامِ وَلَكِنْ عَبَّرَ عَنْ الرَّضَاعِ بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ يَلِيه الْفِصَالُ وَيُلَابِسُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ وَالْغَرَضُ هُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى الرَّضَاعِ التَّامِّ الْمُنْتَهِي بِالْفِصَالِ وَوَقْتِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْحَمْلِ إنْ كَانَ هُوَ الْحَمْلُ بِالْأَيْدِي إذْ الطِّفْلُ يُحْمَلُ بِالْيَدِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبًا فَالْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ لِلْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جَمِيعًا وَلَا تَعَرُّضَ لِلْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ حِينَئِذٍ فِي الْآيَةِ، فَلَا يَكُونُ الْإِشَارَةُ الْمَذْكُورَةُ ثَابِتَةً فِيهَا، وَيَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْله تَعَالَى {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: ٢٣٣] ، {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: ١٤] ، عَلَى بَيَانِ مُدَّةِ وُجُوبِ أَجْرِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأَبِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَمْلُ فِي الْبَطْنِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَالْإِشَارَةُ ثَابِتَةٌ وَلَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِهَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بَلْ يُتَمَسَّكُ لَهُ بِالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّبَنَ كَمَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ يُغَذِّيه بَعْدَهُمَا وَالْفِطَامُ لَا يَحْصُلُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ يُفْطَمُ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتَّى يَيْبَسَ اللَّبَنُ وَيَتَعَوَّدَ الصَّبِيُّ الطَّعَامَ فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى حَوْلَيْنِ لِمُدَّةِ الْفِطَامِ، فَإِذَا وَجَبَتْ الزِّيَادَةُ قَدَّرْنَا تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، ثُمَّ هَذَا النَّصُّ مَسُوقٌ لِبَيَانِ مِنَّةِ الْوَالِدَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْوَالِدَيْنِ ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي جَانِبِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} [الأحقاف: ١٥] أَيْ ذَاتَ كُرْهٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ حَمْلًا ذَا كُرْهٍ عَلَى الصِّفَةِ لِلْمَصْدَرِ وَالْكُرْهُ الْمَشَقَّةُ.

ثُمَّ زَادَ فِي الْبَيَانِ بِقَوْلِهِ، {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: ١٥] ، أَيْ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ لَمْ تَكُنْ مُقْتَصِرَةً عَلَى زَمَانٍ قَلِيلٍ بَلْ هِيَ مَعَ مَشَقَّاتِ الرَّضَاعِ مُمْتَدَّةٌ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ أَوْ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ وَفِي رِوَايَةٍ إلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَهَمَّ بِرَجْمِهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: أَوْ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَمَا إنَّهَا لَوْ خَاصَمَتْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ لَخَصِمَتكُمْ أَيْ غَلَبَتْكُمْ فِي الْخُصُومَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: ١٥] وَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: ٢٣٣] ، فَبَقِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِحَمْلِهَا فَأَخَذَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذِهِ إشَارَةٌ غَامِضَةٌ وَقَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِدِقَّةِ فَهْمِهِ وَقَدْ اخْتَفَى هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الصَّحَابَةِ فَلَمَّا أَظْهَرَهُ قَبِلُوا مِنْهُ، وَلَا يُقَالُ لَا بُدَّ فِي الْإِشَارَةِ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْت بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ الضَّرُورَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ ثَلَاثُونَ يَشْمَلُ أَفْرَادَهُ مُطَابَقَةً فَيَكُونُ السِّتَّةُ بَعْضَ مَدْلُولِهِ فَيَكُونُ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ بَيَانِ الضَّرُورَةِ وَالْإِشَارَةِ فَلْيَكُنْ بَيَانَ ضَرُورَةٍ أَيْضًا

<<  <  ج: ص:  >  >>