للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ، وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْحُقُوقُ مُتَعَدِّدَةٌ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِالْحُقُوقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِاسْتِوَائِهَا فِي الْمَنْزِلَةِ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: بَلْ وَاحِدٌ مِنْ الْجُمْلَةِ أَحَقُّ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الصَّحِيحَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ مُصِيبٌ فِي ابْتِدَاءِ اجْتِهَادِهِ لَكِنَّهُ مُخْطِئٌ انْتِهَاءً فِيمَا طَلَبَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَا قُلْنَا

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَى إصْرَارِهِمْ عَلَى عَقَائِدِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَاتَلَ جَمِيعَهُمْ، وَكَانَ يَكْشِفُ عَنْ عَوْرَةِ مَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ لِيَقْتُلَهُ وَيُعَذِّبَهُ وَنَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْمُعَانِدَ الْعَارِفَ مِمَّا يَقِلُّ، وَإِنَّمَا الْأَكْثَرُ مُقَلِّدُهُ اعْتَقَدُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مُعْجِزَةَ الرَّسُولِ وَصِدْقَهُ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا مِمَّا لَا يُحْصَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: ٢٧] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: ٢٧] {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: ٢٣] {إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [الجاثية: ٢٤] {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: ١٨] {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: ١٠] وَعَلَى الْجُمْلَةِ ذَمُّ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُهُمْ عَلَى إصَابَةِ الْحَقِّ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ الْعَقْلِ وَنَصَبَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَبَعَثَ مِنْ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّذِينَ نَبَّهُوا الْغُفُولَ وَحَرَّكُوا دَوَاعِيَ النَّظَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.، وَمَا قَالَهُ الْعَنْبَرِيُّ يَبْطُلُ بِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمُخَالِفِينَ عَلَى ذَمِّ الْمُبْتَدِعَةِ، وَمُهَاجَرَتِهِمْ، وَقَطْعِ الصُّحْبَةِ مَعَهُمْ وَتَشْدِيدِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ مَعَ تَرْكِ التَّشْدِيدِ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. وَرَفْعِ الْإِثْمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ الْفِقْهِيَّةِ إنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ مِنْهَا هُوَ الظَّنُّ بِهَا، وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْعِلْمُ، وَلَمْ يَحْصُلْ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَدِلَّةَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ظَاهِرَةٌ مُتَوَافِرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِيهَا بِالْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ.

١ -

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) إلَى آخِرِهِ. اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا. فَذَهَبَ كُلُّ مَنْ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ مِثْلُ عَامَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَبَعْضِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هُذَيْلٍ وَالْجُبَّائِيِّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ إلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ بَلْ الْحُكْمُ فِيهَا تَابِعٌ لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ حَتَّى كَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ، وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ الْمُصَوِّبَةَ.

وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُكْمٌ مُتَعَيَّنٌ فِي الْحَادِثَةِ قَدْ وُجِدَ مِنْهَا مَا لَوْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِحُكْمٍ لَمَّا حَكَمَ إلَّا بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ وَاحِدٌ مِنْ الْجُمْلَةِ أَحَقُّ. وَفَسَّرَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا عِنْدَهُمْ إلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الطَّلَبُ إذْ لَا بُدَّ لِلطَّلَبِ مِنْ مَطْلُوبٍ لَكِنْ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ فَلِذَلِكَ كَانَ مُصِيبًا، وَإِنْ أَخْطَأَ ذَلِكَ الْحُكْمَ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِإِصَابَتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَتَى مَا كُلِّفَ بِهِ فَأَصَابَ مَا عَلَيْهِ. وَذَهَبَ كُلُّ مَنْ قَالَ الْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ أَوْ يُصِيبُ مِثْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَإِلَيْهِمْ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الصَّحِيحَةِ إلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمًا مُعَيَّنًا فِي الْحَادِثَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَيْسَ عَلَى الْحُكْمِ دَلِيلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ دَفِينٍ يَعْثِرُ الطَّالِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ فَلِمَنْ عَثَرَ عَلَيْهِ أَجْرَانِ وَلِمَنْ اجْتَهَدَ، وَلَمْ يَعْثِرْ أَجْرٌ وَاحِدٌ لِأَجْلِ سَعْيِهِ وَطَلَبِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ بِإِصَابَتِهِ لِخَفَائِهِ وَغُمُوضِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ مَعْذُورًا وَمَأْجُورًا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا ظَنِّيًّا أُمِرَ الْمُجْتَهِدُ بِطَلَبِهِ فَإِذَا أَخْطَأَ لَمْ يَكُنْ مَأْجُورًا لَكِنْ حُطَّ عَنْهُ الْإِثْمُ تَخْفِيفًا

<<  <  ج: ص:  >  >>