بِنَاءً عَلَى الْعَهْدِ الْمَاضِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: ١٧٢] الْآيَةَ
ــ
[كشف الأسرار]
لِلْوُجُوبِ أَيْ لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ بِشِرَاءِ الْوَلِيِّ وَبِتَزْوِيجِهِ إيَّاهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ وَالْمَهْرُ بِعَقْدِ الْوَلِيِّ وَهَذَا رَدٌّ لِمَا ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْفِقْهِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْمَالِ فِي الذِّمَّةِ لَا مَعْنَى لَهُ وَأَنَّ تَقْدِيرَ الذِّمَّةِ مِنْ التُّرَّهَاتِ الَّتِي لَا حَاجَةَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ إلَيْهَا بَلْ الشَّرْعُ مَكَّنَهُ بِأَنْ يُطَالِبَهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ فَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ عُرْفًا وَشَرْعًا فَقَالَ هِيَ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَمَنْ أَنْكَرَهَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الذِّمَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَهْدِ فِي اللُّغَةِ فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْإِنْسَانَ مَحَلَّ أَمَانَتِهِ أَكْرَمَهُ بِالْعَقْلِ وَالذِّمَّةِ حَتَّى صَارَ بِهِمَا أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْعِصْمَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ حَمَلَ حُقُوقَهُ وَثَبَتَتْ عَلَيْهِ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي سَمَّاهَا أَمَانَةً مَا شَاءَ كَمَا إذَا عَاهَدْنَا الْكُفَّارَ وَأَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ ثَبَتَتْ لَهُمْ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآدَمِيُّ لَا يُخْلَقُ إلَّا وَلَهُ هَذَا الْعَهْدُ وَالذِّمَّةُ فَلَا يُخْلَقُ إلَّا وَهُوَ أَهْلٌ لِوُجُوبِ حُقُوقِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُخْلَقُ إلَّا وَهُوَ حُرٌّ مَالِكٌ لِحُقُوقِهِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْكَرَامَاتُ بِنَاءً عَلَى الذِّمَّةِ وَحَمْلِهِ حُقُوقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ (بِنَاءً عَلَى الْعَهْدِ الْمَاضِي) يَعْنِي إنَّمَا ثَبَتَتْ لَهُ الذِّمَّةُ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ فِي الشَّرْعِ عَنْ وَصْفٍ يَصِيرُ الشَّخْصُ بِهِ أَهْلًا لِلْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ بِنَاءً عَلَى الْعَهْدِ الْمَاضِي الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ يَوْمَ الْمِيثَاقِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: ١٧٢] الْآيَةَ.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا أَيْ عِيَانًا بِحَيْثُ يُعَايِنُهُمْ آدَم.
وَقَالَ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا تَلَاهَا إلَى قَوْلِهِ الْمُبْطِلُونَ» وَرَوَى حَدِيثَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ وَابْنُ بِنَذْرِ. وَمَعْمَرٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ وَأَبُو قِلَابَةَ وَغَيْرُهُمْ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ جَمَعَهُمْ جَمِيعًا فَجَعَلَهُمْ أَزْوَاجًا ثُمَّ صَوَّرَهُمْ ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا قَالَ فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمْ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ غَيْرِي فَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إلَيْكُمْ رُسُلًا يَذْكُرُ بِكُمْ عَهْدِي وَأُنْزِلَ عَلَيْكُمْ كُتُبِي قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ إلَهُنَا لَا إلَهَ غَيْرُك فَأَقَرُّوا يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ وَفِي رِوَايَةِ مُقَاتِلٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِ آدَمَ الْيُمْنَى أَيْ أَمَرَ مَلَكًا بِذَلِكَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ يَتَحَرَّكُونَ ثُمَّ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ فَقَالَ يَا آدَم هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُك آخُذُ مِيثَاقَهُمْ عَلَى أَنْ يَعْبُدُونِي وَلَا يُشْرِكُوا بِي شَيْئًا وَعَلَيَّ رِزْقُهُمْ فَقَالَ نَعَمْ يَا رَبِّ فَقَالَ لَهُمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى ثُمَّ أَفَاضَهُمْ إفَاضَةَ الْقِدَاحِ ثُمَّ أَعَادَهُمْ جَمِيعًا فِي صُلْبِ آدَمَ فَأَهْلُ الْقُبُورِ مَحْبُوسُونَ حَتَّى يَخْرُجَ أَهْلُ الْمِيثَاقِ كُلُّهُمْ مِنْ أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: ١٠٢] .
وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَتْ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِنَاءً عَلَى الْعَهْدِ الْمَاضِي يَعْنِي الْعَهْدَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute