قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوَّلُ أَحْوَالِ الْبُلُوغِ قَدْ لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ فَإِذَا امْتَدَّ الزَّمَانُ وَظَهَرَتْ الْخِبْرَةُ وَالتَّجْرِبَةُ حَدَثَ ضَرْبٌ مِنْ الرُّشْدِ لَا مَحَالَةَ وَالشَّرْطُ رُشْدٌ نَكِرَةٌ فَسَقَطَ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ إمَّا عُقُوبَةٌ وَإِمَّا حُكْمٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَيَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ النَّصِّ فَإِذَا دَخَلَهُ شُبْهَةٌ أَوْ صَارَ الشَّرْطُ فِي حُكْمِ الْوُجُودِ بِوَجْهٍ وَجَبَ جَرَّاؤُهُ
ــ
[كشف الأسرار]
هُوَ أَهْلٌ لِتَحَمُّلِ أَمَانَتِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفَاتِ فَثَبَتَ أَنَّ السَّفَهَ لَا يَمْنَعُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَلَا يَجِبُ سُقُوطُ الْخِطَابِ عَنْ السَّفِيهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ مُنِعَ مِنْهُ الْمَالُ أَوْ لَمْ يُمْنَعْ حُجِرَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُحْجَرْ وَأَجْمَعُوا أَنَّ السَّفِيهَ يُمْنَعُ مَالُهُ فِي أَوَّلِ مَا يَبْلُغُ بِالنَّصِّ يَعْنِي إذَا بَلَغَ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: ٥] أَيْ لَا تُؤْتُوا الْمُبَذِّرِينَ أَمْوَالَكُمْ الَّذِينَ يُنْفِقُونَهَا فِيمَا لَا يَنْبَغِي أَمْوَالُهُمْ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ أَضَافَ الْأَمْوَالَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْوَالُ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يُقِيمُ النَّاسُ بِهِ مَعَايِشَهُمْ كَمَا قَالَ {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: ٢٩] وَكَمَا تَقُولُ لِمَنْ قَدَّمَ طَعَامًا بَيْنَ يَدَيْك هَذَا طَعَامِي فِي مَنْزِلِي كُلَّ يَوْمٍ أَيْ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ لِأَنَّهُمْ الْقَوَّامُونَ عَلَيْهَا وَالْمُتَصَرِّفُونَ فِيهَا {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: ٥] أَيْ تَقُومُونَ بِهَا وَلَوْ ضَيَّعْتُمُوهَا لَضِعْتُمْ فَكَأَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا قِيَامُكُمْ وَانْتِعَاشُكُمْ ثُمَّ عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ أَيْ بِإِبْصَارِهِ فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: ٦] أَيْ عَرَفْتُمْ وَرَأَيْتُمْ فِيهِمْ صَلَاحًا فِي الْعَقْلِ وَحِفْظًا لِلْمَالِ {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٦] فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا بَلَغَ السَّفِيهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ دُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَى السَّفِيهِ مَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ الْمَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَكَذَا إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّ السَّفَهَ يَسْتَحْكِمُ بِطُولِ الْمُدَّةِ.
وَلِأَنَّ السَّفَهَ فِي حُكْمِ مَنْعِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَإِنَّهُمَا يَمْنَعَانِ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً كَمَا قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ السَّفَهُ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: ٦] مَعْنَاهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرُوا فَيَلْزَمَكُمْ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِمْ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٢] وَالْمُرَادُ الْبَالِغُونَ وَسُمُّوا يَتَامَى لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِهِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ الْمَال مِنْهُ عِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: ٦] وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ فَيَكُونُ بَيَانًا إنْ دَفْعَ الْمَالَ إلَيْهِ عَقِيبَ الْبُلُوغِ بِشَرْطِ إينَاسِ الرُّشْدِ وَمَا يَقْرَبُ مِنْ الْبُلُوغِ فِي مَعْنَى حَالَةِ الْبُلُوغِ فَأَمَّا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ فَوُجُوبُ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ مُطْلَقٌ لِمَا تَلَوْنَا غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِبَقَاءِ أَثَرِ الصَّبِيِّ وَبَقَاءِ أَثَرِهِ كَبَقَاءِ عَيْنِهِ فِي مَنْعِ الْمَالِ وَأَثَرِهِ قَدْ يَبْقَى إلَى أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانٌ، وَيَنْقَطِعُ بَعْدَمَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً لِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَالِ أَوْ مَنْعِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ لَهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّأْدِيبِ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ رَجَاءَ التَّأْدِيبِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ فَقَدْ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ جِدًّا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا مَعْنَى بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ.
ثُمَّ نَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْبُلُوغِ قَدْ لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ لِقُرْبِهِ بِزَمَانِ الصِّبَا وَبَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفِيدَ رُشْدًا مَا بِطَرِيقِ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ إذْ التَّجَارِبُ تُفَّاحُ الْعُقُولِ وَالشَّرْطُ رُشْدٌ نَكِرَةٌ فَيَتَحَقَّقُ بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُنْكَرَةِ فَسَقَطَ الْمَنْعُ أَيْ مَنْعُ الْمَالِ بِوُجُودِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الرُّشْدِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ مَنْعُ الْمَالِ إمَّا عُقُوبَةً ثَبَتَتْ زَجْرًا لَهُ عَنْ الْفِعْلِ الْحَرَامِ وَهُوَ التَّبْذِيرُ أَوْ حُكْمٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْ مَالِكِهِ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَتَمَيُّزِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ إذْ الْمِلْكُ هُوَ الْمُطْلَقُ الْحَاجِزُ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِعَيْنِ النَّصِّ أَيْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ رُشْدٌ تَحْقِيقًا وَلَا تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ مَا كَانَ عُقُوبَةً أَوْ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ فَإِذَا دَخَلَهُ أَيْ مَنْعَ الْمَالِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute