للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّظَرِ لِلسَّفِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَ السَّفَهُ مُكَابَرَةً وَتَرْكًا لِمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلنَّظَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَنْ قَصَّرَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَجَانَةً وَسَفَهًا لَمْ يُوضَعْ عَنْهُ الْخِطَابُ نَظَرًا بَلْ كَانَ مُؤَكَّدًا لَازِمًا وَقَدْ يُحْبَسُ عُقُوبَةً وَلَا يُوضَعُ عَنْهُ الْخِطَابُ وَلَا يُبْطِلُ فِي ذَلِكَ عِبَارَاتِهِ وَلَا يُعَطِّلُ عَلَيْهِ أَسْبَابَ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ

ــ

[كشف الأسرار]

الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ شُبْهَةٌ بِحُصُولِ الشَّرْطِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ إصَابَةُ نَوْعٍ مِنْ الرُّشْدِ بِالتَّجْرِبَةِ سَقَطَ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ أَوْ صَارَ الشَّرْطُ أَيْ شَرْطُ الدَّفْعِ فِي حُكْمِ الْوُجُودِ مِنْ وَجْهٍ بِوُجُودِ دَلِيلِهِ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مُدَّةِ التَّجْرِبَةِ يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى يَسْقُطُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ رُشْدٌ نَكِرَةٌ فَإِذَا وُجِدَ رُشْدٌ مَا فَقَدْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ فَوَجَبَ جَزَاؤُهُ وَهُوَ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ.

قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّظَرِ لِلسَّفِيهِ) بِجَعْلِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ وَإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلْغَيْرِ عَلَى مَالِهِ صَوْنًا لِمَالِهِ عَنْ الضَّيَاعِ كَمَا وَجَبَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُخَاطَبٌ فَيَكُونُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ فَإِنَّ كَوْنَهُ مُخَاطَبًا يُثْبِتُ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ إذْ التَّصَرُّفُ كَلَامٌ مُلْزِمٌ وَأَهْلِيَّةُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُمَيِّزًا وَالْكَلَامُ الْمُلْزِمُ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَبِالْحُرِّيَّةِ تَثْبُتُ الْمِلْكِيَّةُ وَبِكَوْنِ الْمَالِ خَالِصُ مِلْكِهِ تَثْبُتُ الْمَحَلِّيَّةُ وَبَعْدَمَا صَدَرَ التَّصَرُّفُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ إلَّا لِمَانِعٍ وَالسَّفَهُ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا مِنْ نُفُوذِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ بِالسَّفَهِ لَا يُنْتَقَصُ الْعَقْلُ وَلَكِنَّ السَّفِيهَ يُكَابِرُ عَقْلَهُ فِي التَّبْذِيرِ مَعَ عِلْمِهِ بِقُبْحِهِ وَفَسَادِ عَاقِبَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ السَّفَهُ سَبَبًا لِلنَّظَرِ لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً وَالدَّلِيلُ أَنَّ السَّفِيهَ يُحْبَسُ فِي دُيُونِ الْعِبَادِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ حَتَّى يُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِهَا وَلَا يَبْطُلُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ عِبَارَاتُهُ حَتَّى صَحَّ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَنَذْرِهِ وَيَمِينُهُ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ.

١ -

وَلَا يُعَطَّلُ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ حَتَّى لَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ قَتَلَ إنْسَانًا عَمْدًا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَهَذِهِ الْعُقُوبَاتُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَوْ بَقِيَ السَّفَهُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ فِي إيجَابِ النَّظَرِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَوْ جَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَلْحَقُ بِنَفْسِهِ وَالْمَالُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ فَإِذَا لَمْ يُنْظَرْ لَهُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَعَنْ مَالِهِ أَوْلَى.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْفَسْخِ وَهِيَ مَا يُبْطِلُهُ الْهَزْلُ دُونَ مَا لَا يُبْطِلُهُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا إنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ فَعِنْدَهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَسَادِ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ الْفَاسِقُ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ.

احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: ٢٨٢] نَصَّ عَلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى السَّفِيهِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يُفْنِي مَالَهُ فِي اتِّخَاذِ الضِّيَافَاتِ حَتَّى اشْتَرَى لِلضِّيَافَةِ دَارًا بِمِائَةِ أَلْفٍ وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَطَلَبَ عَلِيٌّ مِنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ لِعَبْدِ اللَّهِ أَشْرِكْنِي فِيهَا فَأَشْرَكَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ وَهُوَ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكِيَاسَةِ فِي التِّجَارَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْحَجْرَ بِسَبَبِ التَّبْذِيرِ وَبِأَنَّ السَّفِيهَ مُبَذِّرٌ فِي مَالِهِ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ كَالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إنَّمَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِتَوَهُّمِ التَّبْذِيرِ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا فَلَأَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَانَ أَوْلَى وَكَانَ هَذَا الْحَجَرُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَاجِبًا حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الْجَصَّاصَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ ضَرَرُ السَّفَهِ يَعُودُ إلَى الْكَافَّةِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَفْنَى مَالَهُ بِالسَّفَهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>