للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ النَّظَرُ وَاجِبٌ حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَحَقًّا لَهُ لِدِينِهِ لَا لِسَفَهِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا وَقَاسَاهُ بِمَنْعِ الْمَالِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النَّظَرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ كَمَا فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا فَوْقَهُ وَهَا هُنَا يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا فَوْقَهُ وَهُوَ وَقْفُ أَهْلِيَّتِهِ وَإِلْحَاقِهِ بِالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ بِخِلَافِ مَنْعِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلِأَنَّهُ عُقُوبَةً لَا يَحْتَمِلُ الْمُقَايَسَةَ وَلِأَنَّ الْيَدَ لِلْآدَمِيِّ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ، وَاللِّسَانُ وَالْأَهْلِيَّةُ نِعْمَةٌ أَصْلِيَّةٌ فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ لِإِبْطَالِ أَعْلَى النِّعْمَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَدْنَاهُمَا وَقَالَا هَذِهِ الْأُمُورُ صَارَتْ حَقًّا لِلْعَبْدِ رِفْقًا بِهِ فَإِذَا أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَجَبَ الرَّدُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ حَقٌّ فِي عَيْنِ الْمَالِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَالتَّبْذِيرِ صَارَ وَبَالًا عَلَى النَّاسِ وَعِيَالًا عَلَيْهِمْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْعَامَّةِ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الْمُفْتِي لَمَّا جُنَّ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ وَحَقًّا لِدِينِهِ لَا لِسَفَهٍ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا لِسَفَهٍ فَهُوَ مُسْتَحَقُّ النَّظَرِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ دِينِهِ فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ دِينِهِ حَبِيبُ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَكَذَا كُلُّ فَاسِقٍ حَقًّا لِإِسْلَامِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُمَا شُرِعَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لِلْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ حَقًّا لِدِينِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ (لَا لِسَفَهٍ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السَّفَهُ جِنَايَةٌ مِنْهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّظَرَ وَعَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السَّفِيهُ جَانٍ فَيَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ فَقَالَ النَّظَرُ لَهُ وَاجِبٌ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجِنَايَةَ مُسْتَدْعِيَةٌ لِلنَّظَرِ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ وَعِنْدَ السَّفَهِ يَفُوتُ لَهُ النَّظَرُ وَتَظْهَرُ الْحَالَةُ الَّتِي تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى وُجُوبِ النَّظَرِ لَهُ فَنَظَرُ الشَّرْعِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الدَّاعِي إلَى النَّظَرِ.

أَلَا يُرَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ حَتَّى كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَعَنْ كُلِّ جِنَايَةٍ مَنْدُوبًا إلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: ١٧٨] {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: ٤٠] وَكَذَا الْعَفْوُ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ حَسَنٌ وَإِنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى جَازَ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَكَرْمِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ عُقُوبَةٍ رَغْمًا لِأُنُوفِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَاسَاهُ بِمَنْعِ الْمَالِ فَإِنَّ مَنْعَ الْمَالَ عَنْهُ كَانَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لِيَبْقَى مَصُونًا عَنْ التَّلَفِ وَلَا يَضِيعُ بِالتَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ فَكَذَلِكَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِبْقَاءِ مِلْكِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ مَا لَمْ يَقْطَعْ لِسَانَهُ عَنْ مَالِهِ تَصَرُّفًا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ لَا يُفِيدُ مَنْعَ الْمَالِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ مُؤْنَةٍ وَكُلْفَةٍ عَلَى الْوَلِيِّ فِي حِفْظِ مَالِهِ إلَى أَنْ يُتْلِفَهُ بِتَصَرُّفِهِ.

وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِسَبَبِ السَّفَهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَالْهَازِلِ فَإِنَّ الْهَازِلَ يَخْرُجُ كَلَامُهُ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِقَصْدِ اللَّعِبِ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ يَخْرُجُ كَلَامُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ أَيْضًا وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ وَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَعْنِي فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمَا أَنَّ النَّظَرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ كَمَا فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ يَجُوزُ الْعَفْوُ وَلَا يَجِبُ وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْحَجْرَ وَاجِبٌ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال ثُمَّ النَّظَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا فَوْقَ هَذَا النَّظَرِ هَاهُنَا قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِخِلَافِ مَنْعِ الْمَالِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ إلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ فَإِنَّ سَبَبَهُ جِنَايَةٌ وَهُوَ مُكَابَرَةُ الْعَقْلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَالْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ وَهُوَ مَنْعُ الْمَالِ يَصْلُحُ جَزَاءً كَإِيجَابِ الْمَالِ فَيُجْعَلُ جَزَاءً فَإِنَّا عَرَفْنَا سَائِرَ الْأَجْزِيَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ إنَّا نَظَرْنَا إلَى سَبَبٍ فَوَجَدْنَاهُ جِنَايَةً وَنَظَرْنَا إلَى الْحُكْمِ فَوَجَدْنَاهُ صَالِحًا لِلْعُقُوبَةِ فَسَمَّيْنَاهُ عُقُوبَةً كَالْجَلْدِ فِي الزِّنَا وَقَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ إلَى مَنْعِ اللِّسَانِ وَقَصْرِ الْعِبَارَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ.

وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمَنْعَ لَوْ كَانَ عُقُوبَةً لَفَوَّضَ أَيْ الْإِمَامُ وَالْأَوْلِيَاءُ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ دُونَ الْأَئِمَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ عُقُوبَةُ تَعْزِيرٍ وَتَأْدِيبٍ لَا حَدٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يُفَوَّضَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ كَمَا فِي تَعْزِيرِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّصَّ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ مَعْلُولٌ بِعِلَّةِ النَّظَرِ لَا بِالْعُقُوبَةِ لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ قِيَاسِ الْحَجْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>