للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظٍ شُرِعَ سَبَبًا أَوْ عِلَّةً لَا يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ يُعْقَلُ إلَّا وَاللَّفْظُ دَالٌ عَلَيْهِ لُغَةً وَالْكَلَامُ فِيمَا يُعْقَلُ وَلَا اسْتِعَارَةَ فِيمَا لَا يُعْقَلُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ شَرْعًا وَلِذَلِكَ وُضِعَ لُغَةً فَكَذَلِكَ مَا شَاكَلَهُ.

وَهَذَا فِي مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا لَا يُحْصَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِلَفْظِ التَّحْرِيرِ مَجَازًا وَالْعَتَاقُ يَقَعُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ مَجَازًا وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فَقَدْ انْعَقَدَ نِكَاحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظِ الْهِبَةِ. مَجَازًا مُسْتَعَارًا لَا أَنَّهُ انْعَقَدَ هِبَةً؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمَالِ فِي غَيْرِ الْمَالِ لَا يُتَصَوَّرُ وَقَدْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ وُجُوبُ الْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ الْمِلْكُ عَلَى الْقَبْضِ فَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَعَارًا وَلَا اخْتِصَاصَ لِلرِّسَالَةِ بِالِاسْتِعَارَةِ وُجُوهُ الْكَلَامِ بَلْ النَّاسُ فِي وُجُوهِ التَّكَلُّمِ سَوَاءٌ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا فَصْلٌ لَا خِلَافَ فِيهِ.

ــ

[كشف الأسرار]

تَأْوِيلِ الْمَجَازِ. وَذَلِكَ ثَابِتٌ أَيْ الْقُرْبُ وَالِاتِّصَالُ يَثْبُتُ وَيَتَحَقَّقُ.

وَبَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ أَيْ بَيْنَ مَوْجُودَيْنِ مِنْ حَيْثُ وُجِدَا فَإِنْ كَانَ وُجُودُهُمَا حِسًّا يَتَحَقَّقُ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا وَيُعْتَبَرُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ وَإِنْ كَانَ وُجُودُهُمَا شَرْعًا يَتَحَقَّقُ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوُجُودِ. وَالْمَشْرُوعَاتُ تُوجَدُ شَرْعًا وَهِيَ قَائِمَةٌ بِمَعْنَاهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَسْبَابِهَا نَحْوُ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ قَائِمٌ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ كَوْنُهُ مُطْلَقًا وَحَاجِزًا وَلَهُ سَبَبُ تَعَلُّقٍ بِهِ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَيَتَحَقَّقُ الِاتِّصَالُ بَيْنَهَا مَعْنًى وَصُورَةً كَمَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ. فَصَحَّتْ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ الِاتِّصَالِ الِاسْتِعَارَةُ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ الِاتِّصَالَ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَحْسُوسِ وَالْمَشْرُوعِ جَمِيعًا صُورَةً وَمَعْنًى فَيَجُوزُ بِهِ الِاسْتِعَارَةُ فِي الْكُلِّ لِمَا مَرَّ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِعَارَةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ وَتَحَقُّقِهِ لَا عَلَى التَّوْقِيفِ.

وَالْمَشْرُوعُ قَائِمٌ بِمَعْنَاهُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ وَبِسَبَبِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ كَالنِّكَاحِ يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِكَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ وَبِمَعْنَاهُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الِانْضِمَامُ وَالِازْدِوَاجُ وَكَذَا الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَجَمِيعُ الْمَشْرُوعَاتِ.

قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ مُتَعَلِّقًا بِلَفْظِ) بَيَانُهُ أَنَّ تَعَلُّقَ حُكْمِ الشَّرْعِ بِمَا جُعِلَ سَبَبًا لَهُ عَلَى نَوْعَيْنِ. تَعَلُّقٌ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَنَعْنِي بِهِ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الشَّرْعِ وَقَدْ كَانَتْ اللُّغَةُ دَالَّةً عَلَيْهِ كَتَعَلُّقِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَتَعَلُّقِ الْحِلِّ بِالنِّكَاحِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يُنْكِرُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالْحِلِّ بِالنِّكَاحِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ.

وَتَعَلُّقٌ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ بَلْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَ الشَّرْعِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ كَتَعَلُّقِ وُجُوبِ الْحَدِّ بِالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلِهَذَا تَرَى أَهْلَ الْمِلَلِ يُنْكِرُونَهُ سِوَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالِاسْتِعَارَةُ إنَّمَا تَجْرِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا عُقِلَ بَيْنَهُمَا اتِّصَالٌ وَتَعَلُّقٌ لَا فِيمَا لَا يُعْقَلُ فَكَانَتْ جَارِيَةً فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ اسْتِعَارَةً فِي اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُغَيِّرْهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ بَلْ قَرَّرَهُ عَلَى مَا كَانَ فَيَصِحُّ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ وَكَمَا قَبْلَ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ إيَّاهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا تَأَمَّلَتْ فِي أَسْبَابِ الْمَشْرُوعَاتِ وَجَدْتَهَا عِلَّةً عَلَى الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ اللُّغَةِ فِيمَا يَكُونُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَالْكَلَامِ فِيهِ وَلَا اسْتِعَارَةَ فِيمَا لَا يُعْقَلُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ لِإِيجَابِ الْمِلْكِ وَمَوْضُوعٌ لَهُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ.

وَقَوْلُهُ مُتَعَلِّقًا حَالٌ عَنْ الْمَفْعُولِ مَعْنًى وَهُوَ الْحُكْمُ إذْ هُوَ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ. وَسَبَبًا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِشُرِعَ. وَلَا يَثْبُتُ خَبَرُ إنَّ. وَمَا شَاكَلَهُ نَحْوُ الْهِبَةِ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ لُغَةً وَالْإِجَارَةِ تَدُلُّ عَلَى مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَكَذَا الْإِعَارَةُ وَالْوَكَالَةُ وَأَشْبَاهُهَا.

قَوْلُهُ (وَهَذَا) لَمَّا أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى مَا ذُكِرَ شَرَعَ فِي بَيَانِ كَوْنِهِ مُتَّفِقًا بَيْنَ الْجُمْهُورِ فَقَالَ وَهَذَا أَيْ اسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ كَثِيرٌ فِي مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا.

وَكَذَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجِيزُ اسْتِعَارَةَ لَفْظِ التَّحْرِيرِ لِلطَّلَاقِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَعَلَى الْعَكْسِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَكَذَا لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ.

قَوْلُهُ (مَجَازًا مُسْتَعَارًا) تَرَادُفٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَإِنَّمَا أَكَّدَ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الْخِلَافِ. لَا أَنَّهُ انْعَقَدَ هِبَةً نَفْيٌ لِقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّ النِّكَاحَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْزِلَةِ التَّسَرِّي فِي حَقِّ الْأَمَةِ حَتَّى يَصِحَّ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شَاهِدٍ وَبِلَفْظِ الْهِبَةِ وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَأَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>