للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَبَى أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوْ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِعَ لِأُمُورٍ لَا يُحْصَى مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلِهَذَا شُرِعَ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِمَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ بَلْ فِيهِمَا إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا فَلَمْ يَصِحَّ الِانْتِقَالُ عَنْهُ لِقُصُورِ اللَّفْظِ عَنْ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي الْبَابِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ عَقْدٌ خَاصٌّ شُرِعَ بِلَفْظٍ خَاصٍّ وَهَذَا كَلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ أَشْهَدُ لَمْ يَقُمْ الْيَمِينُ مَقَامُهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ احْلِفْ بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَصْلُحْ الِاسْتِعَارَةُ

ــ

[كشف الأسرار]

يَزِيدَ عَلَى التِّسْعِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَسَمُ وَلَا يَنْحَصِرُ عَدَدُ الطَّلَاقِ مِنْهُ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ لَا بِالْعَقْدِ وَلَا بِالدُّخُولِ فَقَالَ الشَّيْخُ نِكَاحُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِلَفْظِ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ نِكَاحًا لَا هِبَةً؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَلِذَا لَمْ يَكُنْ أَحْكَامُ الْهِبَةِ ثَابِتَةً مِنْ تَوَقُّفِ الْمِلْكِ عَلَى الْقَبْضِ وَحَقُّ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِمَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ قَبْلَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ وَلَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْ الْهِبَةِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَقَدْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا بِلَفْظِ الْهِبَةِ وُجُوبُ الْقَسْمِ حَتَّى كَانَ يَقُولُ. «اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يُرِيدُ زِيَادَةَ مَحَبَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبَعْضِ نِسَائِهِ. وَقَدْ قِيلَ كَانَتْ الْمَوْهُوبَاتُ أَرْبَعًا. مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ. وَزَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ أُمَّ الْمَسَاكِينِ الْأَنْصَارِيَّةَ. وَأُمَّ شَرِيكٍ بِنْتَ جَابِرٍ. وَخَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ كَذَا فِي الْكَشَّافِ.

وَكَذَا الطَّلَاقُ كَانَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى طَلَّقَ حَفْصَةَ وَسَوْدَةَ ثُمَّ رَاجَعَهُمَا. وَكَذَا الْعِدَّةُ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي طَلَاقِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لِمُطَلَّقَتِهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْمَنْزِلِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا تُنَافِي التَّسَرِّيَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ انْعَقَدَ نِكَاحًا لَا هِبَةً كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَأَصَحُّ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. فَثَبَتَ أَنَّهُ أَيْ لَفْظَ الْهِبَةِ كَانَ مُسْتَعَارًا لِلنِّكَاحِ وَلَمَّا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِعَارَةِ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثَبَتَتْ فِي حَقِّ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلرِّسَالَةِ أَثَرٌ فِي مَعْنَى الْخُصُوصِ بِالِاسْتِعَارَةِ وَوُجُوهِ الْكَلَامِ فَإِنَّ مَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ هُوَ التَّخْفِيفُ وَالتَّوْسِعَةُ وَمَا كَانَ يَلْحَقُهُ حَرَجٌ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ النِّكَاحِ فَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْصَحَ النَّاسِ.

قَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا فَصْلٌ لَا خِلَافَ فِيهِ يَعْنِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُوَافِقُنَا فِي جَوَازِ جَرَيَانِ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعَارَةُ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ لِلنِّكَاحِ وَيَأْبَى أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِمَا نَذْكُرُ لَا أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تُجْرَى فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ. أَمَّا بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فَقَوْلُ النِّكَاحِ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ عِنْدَنَا وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ.

وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي انْعِقَادِهِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهَا. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي انْعِقَادِهِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَقِيلَ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْبَيْعُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ وَقِيلَ يَنْعَقِدُ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي طَرِيقَةِ الْحَجَّاجِيَّةِ.

وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إذَا طَلَبَ الزَّوْجُ مِنْهَا النِّكَاحَ حَتَّى لَوْ طَلَبَ مِنْهَا التَّمْكِينَ مِنْ الْوَطْءِ فَقَالَتْ وَهَبْت نَفْسِي مِنْك وَقَبِلَ الزَّوْجُ لَا يَكُونُ نِكَاحًا كَذَا فِي الْمَطْلَعِ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ.

وَكَانَ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ نَاقِلًا عَنْ بَعْضِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ أَبَا الْبِنْتِ لَوْ قَالَ وَهَبْتهَا مِنْك لِتَخْدُمَك فَقَالَ قَبِلْت لَا يَكُونُ نِكَاحًا فَلَمَّا احْتَمَلَتْ الْهِبَةُ الْخِدْمَةَ وَالنِّكَاحَ لَا يَتَعَيَّنُ النِّكَاحُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَمَا ظَفِرْت بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوْ التَّزْوِيجِ عَرَبِيًّا كَانَ اللَّفْظُ أَوْ غَيْرَهُ فِي الْأَصَحِّ. وَفِي قَوْلٍ لَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَاقِدُ الْعَرَبِيَّةَ يُفَوِّضُ إلَى مَنْ يُحْسِنُهَا. وَفِي قَوْلٍ إنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَا يَنْعَقِدُ وَإِلَّا فَيَنْعَقِدُ.

وَالْمَعْنَى فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>