وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَكُمْ كَذَلِكَ حُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ
ــ
[كشف الأسرار]
أَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمَقَاصِدَ جَمَّةٍ لَا تُحْصَى مِمَّا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ وَجَرَيَانِ التَّوَارُثِ وَتَحْصِينِ الدِّينِ وَثُبُوتِ صِفَةِ الْإِحْصَانِ وَغَيْرِهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ تَبَعًا ضَرُورَةَ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا بَعْدَ النِّكَاحِ لَا مَقْصُودًا فِي الْبَابِ فَشُرِعَ بِلَفْظٍ يُنْبِئُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لُغَةً وَهُوَ النِّكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ فَإِنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الضَّمِّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الِاتِّحَادِ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ.
وَكَذَا لَفْظُ التَّزْوِيجِ يُنْبِئُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ لُغَةً عَنْ الِازْدِوَاجِ وَالتَّلْفِيقِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى وَجْهِ الِاتِّحَادِ بَيْنَهُمَا كَزَوْجَيْ الْخُفِّ وَمِصْرَاعَيْ الْبَابِ وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِمَا مِلْكُ الْعَيْنِ أَصْلًا وَالْهِبَةُ وَسَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّمْلِيكِ لَا يُنْبِئُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ أَعْنِي عَنْ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَهُوَ النِّكَاحُ أَوْ التَّزْوِيجُ إلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِقُصُورِهَا عَنْ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي إفَادَةِ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ بِالنِّكَاحِ كَمَا لَا يَصِحُّ الِانْتِقَالُ إلَى لَفْظِ الْإِجَارَةِ وَالْإِحْلَالِ مَعَ أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ أَقْرَبُ إلَى مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَفْظُ الْإِحْلَالِ أَقْرَبُ إلَى مَعْنَى النِّكَاحِ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّكَاحِ إلَّا اسْتِحْلَالُ الْفَرْجِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ إلَى الْإِجَارَةِ وَالْإِحْلَالِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ إلَى أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ كَانَ أَوْلَى. إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ قُصُورٍ فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَتَوْسِعَةً لِلُّغَاتِ فِي حَقِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: ٥٠] . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَقْدٌ خَاصٌّ أَيْ مُخْتَصٌّ بِلَفْظٍ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ. شُرِعَ بِلَفْظٍ خَاصٍّ أَيْ بِلَفْظٍ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الْعَقْدِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ.
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الشَّيْخِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّ النِّكَاحَ لَفْظٌ خَاصٌّ وَلَهُ حُكْمٌ خَاصٌّ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ لَفْظٍ آخَرَ مُقَامَهُ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَ لَهَا لَفْظٌ خَاصٌّ وَلَهُ حُكْمٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي لَا يَجُوزُ إقَامَةُ لَفْظٍ آخَرَ مُقَامَهُ وَهُوَ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ حَلَفَ وَقَالَ وَاَللَّهِ إنَّ لِهَذَا الرَّجُلِ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْمَالِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِهِ.
وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ هُوَ أَنَّ الْيَمِينَ مَا وُضِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ بَلْ لِلدَّفْعِ وَالْإِثْبَاتُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ بِوَاسِطَةِ الدَّفْعِ، وَالْبَيِّنَةُ وُضِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ لَفْظٍ وَضْعِ لِلْإِثْبَاتِ بِوَاسِطَةٍ مُقَامَ لَفْظِ وُضِعَ لِلْإِثْبَاتِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَهَكَذَا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ تَثْبُتُ هَذِهِ الْمَقَاصِدُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِلَفْظِ الْهِبَةِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إقَامَتُهَا مُقَامَ مَا يُوجِبُ الْمَقَاصِدَ بِلَا وَاسِطَةٍ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ وَلَفْظُ الْيَمِينِ مُوجِبٌ لِغَيْرِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ إذْ هُوَ لَفْظٌ وُضِعَ لِلْإِثْبَاتِ وَاسْتُعْمِلَ فِيهِ حَتَّى ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِ إثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِذَاتِهِ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران: ١٨] .
وَالْيَمِينُ مُوجِبَةٌ لِغَيْرِهَا وَهُوَ صِيَانَةُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْهَتْكِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْيَمِينِ مُقَامَهُ لِقُصُورِ لَفْظِ الْيَمِينِ عَنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا لَا يَقُومُ قَوْلُهُ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ إنْشَاءٌ وَذَلِكَ إخْبَارٌ فَكَانَ قَاصِرًا عَنْ الْإِنْشَاءِ فَلَا يَنُوبُ مَنَابَهُ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْمُفَاوَضَةِ) أَيْ وَكَالشَّهَادَةِ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَكُمْ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْمُفَاوَضَةَ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ أَصْلًا حَتَّى قَالَ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَقْدٌ فَاسِدٌ فَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute