أَوْ لِاسْتِعَارَةٍ بَدِيعَةٍ وَذَلِكَ يُسَمَّى غَرِيبًا مِثْلُ رَجُلٍ اغْتَرَبَ عَنْ وَطَنِهِ فَاخْتَلَطَ بِأَشْكَالِهِ مِنْ النَّاسِ فَصَارَ خَفِيًّا بِمَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الْأَوَّلِ
ــ
[كشف الأسرار]
أَمْرُهُمَا بِاعْتِبَارِ هَذَيْنِ الشَّبَهَيْنِ فَبَعْدَ الطَّلَبِ أَلْحَقْنَاهُمَا بِالظَّاهِرِ احْتِيَاطًا ثُمَّ وَجَدْنَا دَاخِلَ الْعَيْنِ خَارِجًا مِنْ الْوُجُوبِ مَعَ أَنَّ لَهُ شَبَهًا بِالظَّاهِرِ وَشَبَهًا بِالْبَاطِنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ وَأَمَّا حُكْمًا؛ فَلِأَنَّ الْمَاءَ لَوْ دَخَلَ عَيْنَ الصَّائِمِ أَوْ اكْتَحَلَ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ وَلَوْ خَرَجَ دَمٌ مِنْ قُرْحَةٍ فِي عَيْنِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْعَيْنِ لَا يَفْسُدُ وُضُوءُهُ وَأَنْ يُجَاوِزَ عَنْ الْقُرْحَةِ فَتَأَمَّلْنَا فِيهِ فَوَجَدْنَاهُ خَارِجًا لِلتَّعَذُّرِ كَالْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ الْعَيْنِ سَبَبٌ لِلْعَمَى، وَلَيْسَ فِي إيصَالِهِ إلَى دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ حَرَجٌ فَبَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ الْوُجُوبِ هَذَا هُوَ مَعْنَى التَّأَمُّلِ بَعْدَ الطَّلَبِ، قُلْت هَذَا مَعْنًى فِقْهِيٌّ لَطِيفٌ إلَّا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَا يَصْلُحُ نَظِيرًا لِلْمُشْكِلِ؛ لِأَنَّ الْمُشْكِلَ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ اشْتِبَاهٌ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّطَهُّرِ لُغَةً وَشَرْعًا مَعْلُومٌ، وَلَكِنَّهُ اشْتَبَهَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَمِ وَالْأَنْفِ كَاشْتِبَاهِ لَفْظِ السَّارِقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ فَكَانَ مِنْ نَظَائِرِ الْخَفِيِّ لَا مِنْ نَظَائِرِ الْمُشْكِلِ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مِنْ نَظَائِرِهِ قَوْله تَعَالَى {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: ٣] .
وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُوجَدَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فَيُؤَدِّي إلَى تَفْضِيلِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ مَرَّةً فَكَانَ مُشْكِلًا فَبَعْدَ التَّأَمُّلِ عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ أَلْفُ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَا أَلْفُ شَهْرٍ عَلَى الْوَلَاءِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّهَا تُوجَدُ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَا مَحَالَةَ فَيُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا قُلْت وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَرَأَ يس يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأُعْطِيَ مِنْ الْأَجْرِ كَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ مَرَّةً» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يس كَانَ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ» فَفِيهِ تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا فَبَعْدَ التَّأَمُّلِ عُرِفَ أَنَّ مَعْنَاهُ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ مَرَّةً بِدُونِهَا لَا مَعَهَا، وَمِنْ نَظَائِرِهِ قَوْله تَعَالَى، {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: ٢٢٣] ، اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ عَلَى السَّامِعِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ أَوْ بِمَعْنَى أَيْنَ فَعُرِفَ بَعْدَ الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ بِقَرِينَةِ الْحَرْثِ وَبِدَلَالَةِ حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ فِي الْأَذَى الْعَارِضِ، وَهُوَ الْحَيْضُ فَفِي الْأَذَى اللَّازِمِ أَوْلَى.
وَأَمَّا نَظِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى، {قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: ١٦] ، فَالْقَوَارِيرُ لَا يَكُونُ مِنْ الْفِضَّةِ وَمَا كَانَ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يَكُونُ قَوَارِيرَ وَلَكِنْ لِلْفِضَّةِ صِفَةُ كَمَالٍ، وَهِيَ نَفَاسَةُ جَوْهَرِهِ وَبَيَاضُ لَوْنِهِ وَصِفَةُ نُقْصَانٍ وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَصْفُو وَلَا تَشِفُّ وَلِلْقَارُورَةِ صِفَةُ كَمَالٍ أَيْضًا.
وَهِيَ الصَّفَاءُ وَالشَّفِيفُ وَصِفَةُ نُقْصَانٍ، وَهِيَ خَسَاسَةُ الْجَوْهَرِ فَعُرِفَ بَعْدَ التَّأَمُّلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ صِفَةُ كَمَالِهِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَهِيَ مَعَ بَيَاضِ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ وَشَفِيفِهَا.
وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: ١٣] ، فَلِلصَّبِّ دَوَامٌ وَلَا يَكُونُ لَهُ شِدَّةٌ وَلِلسَّوْطِ عَكْسُهُ فَاسْتُعِيرَ الصَّبُّ لِلدَّوَامِ وَالسَّوْطُ لِلشِّدَّةِ أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا شَدِيدًا دَائِمًا، وَقِيلَ ذَكَرَ الصَّبَّ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ مِنْ السَّمَاءِ أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَذَكَرَ السَّوْطَ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا أَحَلَّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ بِالْقِيَاسِ إلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَالسَّوْطِ إذَا قِيسَ إلَى سَائِرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute