للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاخْتُلِفَ فِي دِيَانَةِ الْكَافِرِ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ قَالَ إنَّهَا تَصْلُحُ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ وَدَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ لِيَصِيرَ الْخِطَابُ قَاصِرًا عَنْهُمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا اسْتِدْرَاجًا بِهِمْ وَمَكْرًا عَلَيْهِمْ وَتَرْكًا لَهُمْ عَلَى الْجَهْلِ وَتَمْهِيدًا لِعِقَابِ الْآخِرَةِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَتَحْقِيقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» فَأَمَّا فِي حُكْمٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ فَلَا حَتَّى إنَّهُ لَا يُعْطِي لِلْكُفْرِ حُكْمَ الصِّحَّةِ بِحَالٍ وَلَا يُبْتَنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ حُكْمَ الصِّحَّةِ بِحَالٍ وَيُبْتَنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا مِنْ التَّقَوُّمِ وَإِيجَابِ الضَّمَانِ وَجَوَازِ الْبَيْعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ

ــ

[كشف الأسرار]

فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا بِوَجْهِ قَوْلِهِ (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي دِيَانَةِ الْكَافِرِ عَلَى خِلَافِ الْإِسْلَامِ) أَيْ فِي اعْتِقَادِهِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهَا تَصْلُحُ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ حَتَّى لَوْ بَاشَرَ مَا دَانَ بِهِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِوَجْهٍ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ وَدَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ يَعْنِي دِيَانَتُهُ تَمْنَعُ بُلُوغَ دَلِيلِ الشَّرْعِ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ مِثْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَثْبُتُ الْخِطَابُ فِي حَقِّهِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ عَلَى الصِّحَّةِ كَمَا كَانَ لِقُصُورِ الْخِطَابِ عَنْهُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى قُصُورِ الْخِطَابِ عَنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَتَبَدَّلُ مِنْ الْأَحْكَامِ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِي حَقِّنَا بِنُزُولِ الْخِطَابِ حَتَّى يَبْلُغَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَّا أَنَّ الْخِطَابَ بَعْدَمَا شَاعَ يَلْزَمُ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُمْكِنُهُ التَّبْلِيغُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَإِنَّمَا فِي وُسْعِهِ الْإِشَاعَةُ فِي النَّاسِ لَا غَيْرُ فَصَارَتْ الْإِشَاعَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّبْلِيغِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا يُعْذَرُ الْجَاهِلُ بِالْخِطَابِ بَعْدَ الْإِشَاعَةِ لِبُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِ حُكْمًا يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ ثُمَّ بُلُوغُ الْخِطَابِ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ صِدْقَ الْمُبَلِّغِ وَلَا يَرَى كَلَامَهُ حُجَّةً وَالشَّرْعُ أَمَرَنَا أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لَهُ إذَا قَبِلَ الذِّمَّةَ فَبَقِيَ عَلَى الْجَهْلِ كَمَا فِي الْخِطَابِ الَّذِي لَمْ يَشِعْ وَخِطَابِ نَبِيٍّ لَمْ يُثْبِتْ مُعْجِزَتَهُ بَعْدُ وَخَرَجَ الْخِطَابُ بِإِنْكَارِهِ الرَّسُولَ وَيَأْمُرُ الشَّرْعَ إيَّانَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ عَلَيْهِ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً فِي حَقِّهِ فَصَارَ الْبُلُوغُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ (اسْتِدْرَاجًا) مُتَعَلِّقٌ بِقَاصِرٍ أَيْ قُصُورِ الْخِطَابِ عَنْ الْكَافِرِ لَيْسَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لِلِاسْتِدْرَاجِ وَهُوَ التَّقْرِيبُ إلَى الْعَذَابِ بِوَجْهٍ لَا شُعُورَ لَهُ بِهِ يُقَالُ اسْتَدْرَجَهُ إلَى كَذَا أَيْ أَدْنَاهُ مِنْهُ عَلَى التَّدْرِيجِ وَمَكْرًا وَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى غِرَّةٍ وَتَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» فَإِنَّهُ لَا خِطَابَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا تَكْلِيفَ بَلْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَالدُّنْيَا لِلْكَافِرِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ.

وَهَذَا فِي كُلِّ حُكْمٍ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّنَا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْخِطَابِ وَقَبْلَهُ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ ثَابِتًا فَأَمَّا فِي كُلِّ حُكْمٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ فَلَا أَيْ لَا يَكُونُ دِيَانَتُهُ دَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ حَتَّى إنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّانِّ لَا يُعْطِي لِلْكُفْرِ حُكْمَ الصِّحَّةِ بِحَالٍ يَعْنِي لَا يَعْتَبِرُ دِيَانَةَ الْكَافِرِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالنَّارِ وَبِمَا يُبَاشِرُهُ مِنْ الْكُفْرِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَحِلَّ بِحَالٍ وَالْمُغَيِّرُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا يَحْتَمِلُ وَيُبْتَنَى عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنَّ دِيَانَتَهُمْ دَافِعَةٌ عِنْدَهُ لِلتَّعَرُّضِ وَالْخِطَابِ جَمِيعًا أَنَّهُ أَيْ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ نَحْوُ هِبَةِ الْخَمْرِ وَالْوَصِيَّةِ وَالتَّصَدُّقِ بِهَا وَأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ قِيمَتِهَا وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحْرِيمُ الْخَنَازِيرِ فِي أَنَّ الْخِطَابَ بِالتَّحْرِيمِ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ حَتَّى كَانَ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ وَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَيْضًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ شَيْءٌ سَوَاءٌ أَتْلَفَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَجَعَلَ أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ بَيْنَ الْكُفَّارِ حُكْمَ الصِّحَّةِ إذَا دَانُوا بِصِحَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ لِقُصُورِ الْخِطَابِ عَنْهُمْ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ بِمَحْرَمٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>