للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ وَاجِبٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِيمَا أَصَابَ مِنْ قَبْلَنَا مِنْ الْمَثُلَاتِ بِأَسْبَابٍ نُقِلَتْ عَنْهُمْ لِنَكُفَّ عَنْهَا احْتِرَازًا عَنْ مِثْلِهِ مِنْ الْجَزَاءِ، وَكَذَلِكَ التَّأَمُّلُ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ لِاسْتِعَارَةِ غَيْرِهَا لَهَا سَائِغٌ وَالْقِيَاسُ نَظِيرُهُ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ أَحْكَامًا بِمَعَانِي أَشَارَ إلَيْهَا كَمَا أَنْزَلَ مَثُلَاتٍ بِأَسْبَابٍ قَصَّهَا وَدَعَانَا إلَى التَّأَمُّلِ ثُمَّ الِاعْتِبَارِ

ــ

[كشف الأسرار]

دُونَ غَيْرِهِمْ فَكَانَ ادِّعَاءُ كَوْنِهِمْ مَخْصُوصِينَ بِالْعَمَلِ بِهِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَنْ لَا يَرَى إثْبَاتَ شَيْءٍ بِالْقِيَاسِ مَعَ أَنَّهُ حُجَّةٌ كَيْفَ يَرَى إثْبَاتَ أَمْرٍ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَمَّا دَعْوَى الْخُصُوصِ بِنَاءً عَلَى مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الْوَحْيِ وَمَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَفَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَكَذَا دَعْوَاهُمْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ أَنَّ الْكَرَامَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْظِيمِ النَّصِّ بِتَرْكِ الرَّأْيِ فِي مُقَابَلَتِهِ لَا بِإِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالرَّأْيِ وَإِنَّمَا عَمِلُوا بِخِلَافِ النَّصِّ فِي بَعْضِ الْحَوَادِثِ لِفَهْمِهِمْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَوْ غَيْرِهَا أَنَّ ذَلِكَ تَرَخُّصٌ، وَأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى، فَفِي حَدِيثِ الْإِمَامَةِ عَلَى الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ إشَارَةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّرَخُّصِ وَالْإِكْرَامِ لَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَأَخَّرَ تَمَسُّكًا بِالْعَزِيمَةِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ «لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِالْعَزِيمَةِ كَانَ فِي التَّقَدُّمِ لِلْإِمَامَةِ قَبْلَ حُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُرَاعَاةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَعْهُودِ وَالتَّأَخُّرُ إلَى الْحُضُورِ كَانَ رُخْصَةً.

وَكَذَلِكَ عَلِمَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَحْوِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِلْزَامِ فَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلَّا تَتْمِيمَ الصُّلْحِ فَرَأَى إظْهَارَ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَزِيمَةً، ثُمَّ الرَّغْبَةُ فِي الصُّلْحِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِلْإِمَامِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَمَامُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ فِي أَنْ يُظْهِرَ الْإِمَامُ الْمُسَامَحَةَ وَالْمُسَاهَلَةَ فِيمَا يَطْلُبُونَ وَيُظْهِرَ الْمُسْلِمُونَ الْقُوَّةَ وَالشِّدَّةَ فِي ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْعَدُوُّ أَنَّهُمْ لَا يَرْغَبُونَ فِي الصُّلْحِ لِضَعْفِهِمْ فَلِهَذَا أَبَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ عَرَفَ مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ فِي الْبِدَايَةِ بِالْفَائِتِ لِلْمَسْبُوقِ مَعْنَى الرُّخْصَةِ لِيَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَيْهِ أَيْسَرَ وَإِنَّ الْعَزِيمَةَ مُتَابَعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاغْتِنَامُ مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ فَاشْتَغَلَ بِإِحْرَازِ ذَلِكَ أَوَّلًا تَمَسُّكًا بِالْعَزِيمَةِ لَا مُخَالَفَةً لِلنَّصِّ، وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ فَثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَى الرَّأْيِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْقُولُ) ، فَكَذَا اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: ٢] عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ وَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِهِ فَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الِاعْتِبَارَ بِأَمْرٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ كَالِاعْتِبَارِ بِالْمَثُلَاتِ دُونَ الرَّأْيِ فَقَالَ إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ فَالْقِيَاسُ فِي مَعْنَاهُ فَيُلْحَقُ بِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِدْلَالٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلَالَتِهِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ إلَّا أَنَّهُ سَمَّاهُ دَلِيلًا مَعْقُولًا لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ يَحْصُلُ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ لَا بِظَاهِرِ النَّصِّ وَصِيغَتِهِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ إلَى آخِرِهِ هُوَ الْجَوَابُ الْمَوْعُودُ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الْكُفْرُ أَيْ السَّبَبُ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ الْكُفْرُ لِيَكُفَّ عَنْهَا أَيْ يَمْتَنِعَ عَنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ مِثْلِ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْجَزَاءِ يَعْنِي وُجُوبُ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا أَصَابَهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِهِ بَلْ لِنَعْتَبِرَ أَحْوَالَنَا بِأَحْوَالِهِمْ فَكَيْفَ عَمَّا أَسْبَقَ جَوَابُهُ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظُ بِالْغَيْرِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ حُكْمٍ هُوَ هَلَاكٌ فِي مَحَلٍّ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى هُوَ كُفْرٌ وَبَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>