وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّ دَلِيلَ التَّمْيِيزِ شَرْطٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَكِنَّا نَحْتَاجُ قَبْلَ ذَلِكَ إلَى قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ شَاهِدًا لِلْحَالِ لَا نَاقِدًا وَجَدْنَا مِنْ النُّصُوصِ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُولٍ فَاحْتَمَلَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ لَكِنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَمْ يَسْقُطْ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَمْ يَبْقَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْفَرْعُ بِالِاحْتِمَالِ أَيْضًا عَلَى مِثَالِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاجِبٌ مَعَ قِيَامِ الِاخْتِصَاصِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّمَا صَارَ وَاجِبًا لِكَوْنِهِ رَسُولًا وَإِمَامًا وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَلَمْ يَسْقُطْ الْعَمَلُ بِمَا دَخَلَ مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ.
فَأَمَّا هُنَا فَإِنَّ النَّصَّ نَوْعَانِ مَعْلُولٌ وَغَيْرُ مَعْلُولٍ فَيَصِيرُ الِاحْتِمَالُ وَاقِعًا فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ ابْتَلَانَا بِالْمَوْقِفِ مَرَّةً وَبِالِاسْتِنْبَاطِ أُخْرَى كُلُّ ذَلِكَ أَصْلٌ فَلَمَّا اعْتَدَلَا لَمْ يَسْتَقِمْ الِاكْتِفَاءُ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ، فَأَمَّا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّمَا بُعِثَ لِلِاقْتِدَاءِ لَا مُعَارِضَ لِذَلِكَ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالِاحْتِمَالِ
ــ
[كشف الأسرار]
يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مُمَيِّزٍ
وَفِي كَلَامِ الْقَاضِي الْإِمَامِ جَوَابٌ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ: الدَّلَائِلُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِيَاسِ جَعَلَتْ النَّصَّ مَعْلُولًا لِيُمْكِنَ الْقِيَاسُ؛ إذْ لَا قِيَاسَ إلَّا بِكَوْنِ النَّصِّ مُعَلَّلًا، وَإِلَّا لَكَانَ يَثْبُتُ بِوَصْفٍ مِنْ الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجِبْ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَصْفٍ عِلَّةً بَلْ صَارَ الْبَعْضُ مِنْ الْجُمْلَةِ عِلَّةً وَاحْتَمَلَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاحِدَةِ فَلَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاحِدِ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْفُرُوعِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ فِي النَّصِّ؛ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ادَّعَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَا قَالَهُ فَكَانَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ أَنَّ أَحَدَ الْأَوْصَافِ هُوَ الْعِلَّةُ فَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ وَبِكُلِّ وَصْفٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ (وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّ دَلِيلَ التَّمْيِيزِ شَرْطٌ) .
يَعْنِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَدَلِيلُ التَّمْيِيزِ شَرْطٌ عِنْدَنَا أَيْضًا كَمَا هُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمْ دَلِيلَ التَّمْيِيزِ الْإِخَالَةُ، وَعِنْدَنَا التَّأْثِيرُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ رُكْنِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكِنَّا نَحْتَاجُ قَبْلَ ذَلِكَ أَيْ قَبْلَ بَيَانِ التَّمَيُّزِ وَالشُّرُوعِ فِي التَّعْلِيلِ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ أَيْ النَّصِّ الَّذِي يُرِيدُ تَعْلِيلَهُ شَاهِدًا أَيْ مُعَلِّلًا فِي الْحَالِ وَلَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى مَوْرِدِهِ بَلْ يُعَدِّي حُكْمَهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ تَعَدَّى إلَى مَثْقُوبِ السُّرَّةِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجُوزُ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ بِوَصْفٍ قَامَ إلَى الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّعْلِيلَ إلَّا أَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ وَجَدْنَا مِنْ النُّصُوصِ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالِاتِّفَاقِ وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّصُّ الْمُعَيَّنُ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِذَلِكَ الْأَصْلِ وَالْإِلْزَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ لَا لِلْإِلْزَامِ لَكِنَّ هَذَا الْأَصْلَ، وَهُوَ كَوْنُ التَّعْلِيلِ أَصْلًا فِي النُّصُوصِ لَمْ يَسْقُطْ بِالِاحْتِمَالِ أَيْضًا حَتَّى جَازَ التَّعْلِيلُ لِلْعَمَلِ بِهِ قَبْلَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ الْإِلْزَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ
وَعَلَى مِثَالِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ صَلَحَ حُجَّةً دَافِعَةً لَا مُلْزِمَةً حَتَّى إنَّ حَيَاةَ الْمَفْقُودِ لَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً بِطَرِيقِ الِاسْتِصْحَابِ نَجْعَلُ حُجَّةً لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَا يُورَثَ مَالُهُ، وَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَوْ مَاتَ قَرِيبُهُ لَا يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ
وَكَذَلِكَ مَجْهُولُ الْحَالِ إذَا شَهِدَ لَا يَرُدُّ شَهَادَتَهُ بِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ عَبْدًا؛ إذْ الْأَصْلُ فِي بَنِي آدَمَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ.
وَلَكِنْ لَوْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِي حُرِّيَّتِهِ لَمْ يَصِرْ حُجَّةً عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لِاحْتِمَالِ زَوَالِهِ بِعَارِضٍ، وَلَا يُبْطِلُ حُرْمَةً فِي نَفْسِهِ أَيْضًا بِهَذَا الِاحْتِمَالِ فَكَذَلِكَ هَذَا، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ شَاهِدًا لَمْ يَبْقَ الِاحْتِمَالُ فَصَارَ حُجَّةً
قَوْلُهُ: (وَلَا يَلْزَمُ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالرَّسُولِ فِي أَفْعَالِهِ أَصْلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: ٢١] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: ٣١] كَمَا أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي النُّصُوصِ أَصْلٌ بِالدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِيَاسِ، وَقَدْ ثَبَتَ اخْتِصَاصُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ مِثْلَ إبَاحَةِ صَوْمِ الْوِصَالِ، وَحِلِّ التِّسْعِ وَإِبَاحَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَأَخَذَ الصَّفِيِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا ثَبَتَ عَدَمُ التَّعْلِيلِ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ ثُمَّ جَازَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ قِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ حَتَّى جَازَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ، وَصَحَّ الْإِلْزَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ الْمَانِعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ هَا هُنَا أَيْضًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ قِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى كَوْنِ هَذَا النَّصِّ الْمُعَيَّنِ