للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْمُخْطِئُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُضَلَّلُ وَلَا يُعَاتَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ الصَّوَابِ بَيِّنًا فَيُعَاتَبُ، وَإِنَّمَا نَسَبْنَا الْقَوْلَ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ، وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ وَبِأَنْ يَلْحَقَ الْوَلِيُّ بِالنَّبِيِّ، وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِهِمْ وَالْمُخْتَارُ مِنْ الْعِبَارَاتِ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ عَلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِهِ احْتِرَازًا عَنْ الِاعْتِزَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا وَعَلَيْهِ مَضَى أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَسَقَطَتْ الْمِحْنَةُ وَبَطَلَ الِاجْتِهَادُ

ــ

[كشف الأسرار]

قَوْلُهُ: (فَالْمُخْطِئُ فِي هَذَا الْبَابِ) أَيْ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لَا يُضَلَّلُ، وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْمُخْطِئِ فِي الْأُصُولِ فَإِنَّهُ مُضَلَّلٌ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُخْطِئِ فِي الْفُرُوعِ فَقِيلَ هُوَ مَأْجُورٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ هُوَ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَهُوَ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْحَظْرِ يَزُولُ بِعُذْرِ الْخَطَأِ فَأَمَّا أَنْ يَنَالَ أَجْرَ الصَّوَابِ، وَلَا صَوَابَ فَلَا كَالنَّائِمِ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ لَا يَنَالُ ثَوَابَ الْمُصَلِّي. وَقِيلَ هُوَ مُعَاقَبٌ مُخَطَّأٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقُلْنَا إذَا كَانَ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ بَيِّنًا فَهُوَ مُعَاتَبٌ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مَا أَخْطَأَ إلَّا بِتَقْصِيرِ مَنْ قَبْلَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ خَفِيًّا فَلَيْسَ بِمُعَاتَبٍ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ إنَّمَا وَقَعَ لِخَفَاءِ دَلِيلِ الْإِصَابَةِ وَذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْخَفِيُّ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ فَهْمٍ وَكُلُّ قَلْبٍ فَإِنَّ إدْرَاكَ الْبَصَائِرِ عَلَى التَّفَاوُتِ كَإِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ بِحُكْمِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَجُوزُ الْعِتَابُ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ مَعْذُورًا فِيمَا لَمْ يُدْرِكْ مُصِيبًا فِيمَا اسْتَعْمَلَ مِنْ الِاجْتِهَادِ مَأْجُورًا.

وَمَا رُوِيَ مِنْ التَّخْطِئَةِ وَالتَّشْنِيعِ فَعَلَى النَّوْعِ الَّذِي طَرِيقُهُ عِنْدَ الَّذِي خَطَّأَ وَشَنَّعَ، وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَصْلَحَ لِلْعَبْدِ إصَابَةُ الْحَقِّ وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ عَلَيْهِ فَإِذَا حُرِمَ مِنْ الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَصْلَحَ لَهُ، وَهُوَ وَاجِبٌ لَهُ عِنْدَهُمْ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِإِصَابَةِ الْكُلِّ. وَبِأَنْ يَلْحَقَ الْوَلِيُّ بِالنَّبِيِّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيٍّ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالْإِفْضَالِ مَا لَا يَفْعَلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ يُبْطِلُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَاجْتِسَارِهِ فَالْوَلِيُّ مُلْحَقٌ بِالنَّبِيِّ عِنْدَهُمْ فِي حَقِّ الْإِفْضَالِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ إلْحَاقُ الْوَلِيِّ بِالنَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُصِيبًا لِلْحَقِّ فِي اجْتِهَادِهِ لَا مَحَالَةَ كَانَ قَوْلُهُ فِي الْحَقِّيَّةِ مِثْلَ قَوْلِ النَّبِيِّ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّصْوِيبِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّصْوِيبِ لَا يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ذَهَبُوا إلَيْهِ مَعَ إنْكَارِهِمْ الْقَوْلَ بِالْأَصْلَحِ، وَلَكِنَّ مَبْنَى التَّصْوِيبِ عَلَى أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا وُجُوبُ الْأَصْلَحِ كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

وَالثَّانِي امْتِنَاعُ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ بِالتَّصْوِيبِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلَحِ، وَمَنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ. قَوْلُهُ: (عَلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِهِ) أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنْ يُرَادَ إصَابَةُ الْحَقِّ الْحَقِيقِيِّ، وَإِخْطَاءِ الْحَقِّ الْحَقِيقِيِّ لِيَحْصُلَ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْأَحَقِّ مِنْهُمْ قَدْ يَقُولُونَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ إصَابَةَ الْأَحَقِّ وَإِخْطَاءَهُ، وَلَكِنَّ الْمُخْطِئَ لِلْأَحَقِّ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ حَقِيقَةً عِنْدَهُمْ فَإِذَا لَمْ نُرِدْ بِقَوْلِنَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ حَقِيقَةً كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا يَكُونُ هَذَا احْتِرَازًا عَنْ الِاعْتِزَالِ ظَاهِرًا حَيْثُ حَصَلَ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ بِاسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ لَا بَاطِنًا حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالْأَحَقِّ فَأَمَّا إذَا أَرَدْنَا بِهِمَا إصَابَةَ الْحَقِّ الْحَقِيقِيِّ، وَإِخْطَاءَهُ فَقَدْ حَصَلَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ مَذْهَبِهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ: وَلَقَدْ تَدَبَّرْتُ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّصْوِيبِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْفِقْهِ، وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كَثِيرُ حَظٍّ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى شَرَفِ هَذَا الْعِلْمِ، وَمَنْصِبِهِ فِي الدِّينِ، وَمَرْتَبَتِهِ فِي مَسَالِكِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا نِهَايَةُ رَأْسِ مَالِهِمْ الْمُجَادَلَاتُ الْمُوحِشَةُ، وَإِلْزَامُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي مَنْصُوبَاتٍ، وَمَوْضُوعَاتٍ اتَّفَقُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>