وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْعِلَلِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَيُوجِبُ عِصْمَةَ الِاجْتِهَادِ عَنْ الْخَطَأِ وَالْمُنَاقَضَةِ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلٌ بِالْأَصْلَحِ لَكِنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ نُقْصَانِهِ الَّذِي تُسَمِّيهِ مَانِعًا مُخَصِّصًا وَبِزِيَادَتِهِ أَوْ نُقْصَانِهِ يَتَبَدَّلُ الْعِلَّةُ فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ الْعَدَمُ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ لَا إلَى مَانِعٍ أَوْجَبَ الْخُصُوصَ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْبَعْضُ، وَلَمْ يَبْطُلْ دَلِيلُ الْخُصُوصِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا بِالْعَامِّ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ آخَرِينَ بَلْ صَارَ النَّصُّ الْعَامُّ مُسْتَعَارًا لِمَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَقَعَ حُجَّةً فِيهِ.
وَهَذَا أَيْ التَّخْصِيصُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنْ يُبْقِيَ الْعِلَّةَ حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ التَّخْصِيصِ لَا يَكُونُ فِي الْعِلَلِ أَبَدًا أَيْ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهَا بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ التَّخْصِيصَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ تَأْثِيرِهِ بِسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُنَاقَضَةِ وَيَظْهَرُ فَسَادُهُ وَخَطَؤُهُ بِانْتِقَاضِهِ فَإِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ أَمْكَنَ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ نَقْضٌ فِي عِلَّتِهِ أَنْ يَقُولَ خَصَّصْت عِلَّتِي بِدَلِيلٍ وَيَتَخَلَّصُ عَنْ النَّقْضِ فَسَلِمَ اجْتِهَادُهُ عَنْ الْخَطَأِ وَالْمُنَاقَضَةِ فَيَكُونُ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ صَوَابًا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الدُّنْيَا مُنَاقِضٌ. وَفِي ذَلِكَ أَيْ فِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَعِصْمَةِ الِاجْتِهَادِ قَوْلٌ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ. لَكِنَّ الْمُجَوَّزِينَ يَقُولُونَ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ التَّخْصِيصِ تَصْوِيبُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا قُبِلَ مِنْهُ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ خُصَّ لِمَانِعٍ أَمَّا إذَا اشْتَرَطَ بَيَانَ مَانِعٍ صَالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذْ لَا يَتَيَسَّرُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ أَنْ يُبَيِّنَ عِلَّةً مُؤَثِّرَةً فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ثُمَّ يُبَيِّنَ عِنْدَ وُرُودِ النَّقْضِ عَلَيْهَا مَانِعًا صَالِحًا. وَلَئِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِهَذَا الشَّرْطِ مُؤَدِّيًا إلَى التَّصْوِيبِ لَكَانَ مَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ مِنْ إضَافَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ التَّخْصِيصِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ مُؤَدِّيًا إلَى التَّصْوِيبِ أَيْضًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ ثَبَتَ تَخْصِيصُهَا عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ فَهِيَ عِنْدَكُمْ صَحِيحَةٌ غَيْرُ مُنْتَقَضَةٍ أَيْضًا لَكِنَّكُمْ تَنْسُبُونَ عَدَمَ الْحُكْم إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ وَصْفٍ وَنَحْنُ نَنْسُبُ إلَى الْمَانِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُمْكِنُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ نَقْضٌ أَنْ يَقُولَ قَدْ عَدِمْت عِلَّتِي فِي صُورَةِ النَّقْضِ لِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ نُقْصَانِهِ وَيَتَخَلَّصُ عَنْ النَّقْضِ بِذَلِكَ كَمَا يَتَخَلَّصُ بِالتَّخْصِيصِ فَتَبْقَى عِلَّتُهُ عَلَى الصِّحَّةِ فَيَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَّجِرِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ذَهَبُوا إلَى التَّصْوِيبِ مَعَ إنْكَارِهِمْ الْقَوْلَ بِالْأَصْلَحِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا حُمَيْدٍ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَوَائِدِهِ وَالْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ قَالَ بِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ يَحْتَاجُ إلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا وُجِدَتْ، وَلَا حُكْمَ تَكُونُ مَنْقُوضَةً فَيَكُونُ الْمُعَلِّلُ مُخْطِئًا ضَرُورَةً، وَهُوَ خِلَافُ مَا اعْتَقَدُوا فَدَعَاهُمْ ذَلِكَ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْمُجْتَهِدِ مَنْقُوضَةً ضَرُورَةَ كَوْنِ الْمُجْتَهِدِ مُصِيبًا؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلَحُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَعِنْدَنَا لَمَّا جَازَ الْخَطَأُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ جَازَ انْتِقَاضُ الْعِلَّةِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فَعِنْدَهُمْ كَمَا لَا يَجُوزُ الْفَسَادُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْعِلَلِ أَيْضًا فَصَارَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ نَظِيرَ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعِنْدَنَا لَمَّا جَازَ فَسَادُ الْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ نَظِيرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَمَّا ذَكَرَ الشَّيْخُ مِنْ لُزُومِ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ يُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ فِي أَصْلَيْنِ وَاقْتَضَتْ التَّحْلِيلَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَنْفَصِلْ مَنْ عَلَّقَ عَلَيْهَا التَّحْلِيلَ فِي الْفَرْعِ اعْتِبَارًا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ مِمَّنْ عَلَّقَ عَلَيْهَا التَّحْرِيمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute