وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ إنَّهُ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ، وَلَمَّا خُلِقَ الْوَلَدُ مِنْ مَائِهِمَا أَوْ اجْتَمَعَا عَلَى الْوَطْءِ جَاءَتْ بَيْنَهُمَا شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ صَارَتْ بَنَاتُهَا وَأُمَّهَاتُهَا كَبَنَاتِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَآبَاؤُهُ كَآبَائِهَا، وَأَبْنَائِهَا فَلَزِمَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَقَالَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى: إنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالنَّصِّ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ، وَقُلْنَا نَحْنُ بَلْ الْعِلَلُ صَارَتْ عِلَلًا شَرْعًا لَا بِذَوَاتِهَا، وَهِيَ لَمْ تُجْعَلْ عِلَّةً عِنْدَ مُعَارَضَةِ النَّصِّ، وَفِي هَذَا مُعَارَضَةٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّصِّ يَزْدَادُ بِامْتِدَادِ الْحُرْمَةِ إلَى الْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِنَّ فَلَا يَبْقَى عِلَّةٌ عِنْدَ مُعَارَضَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا، وَمَنْ أَحْكَمَ الْمَعْرِفَةَ، وَأَحْسَنَ الطَّوِيَّةَ سَهُلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْجُمَلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ــ
[كشف الأسرار]
التَّخْصِيصِ كَمَا فِي النَّصِّ، وَإِلَّا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ بِخِلَافِ الْمَعَانِي الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى فَيُحْمَلُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ فِيهَا عَلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا يَكُونُ تَنَاقُصًا.، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْمَعَانِي الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَجْرِي فِي الْمَعَانِي تَبَعًا لِلْأَلْفَاظِ إذْ الْمَعَانِي لَازِمَةٌ لِلْأَلْفَاظِ فَإِذَا خُصِّصَتْ الْأَلْفَاظُ فَقَدْ خُصِّصَتْ مَعَانِيهَا أَيْضًا لَكِنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ قَصْدًا فَلِهَذَا قَالَ دُونَ الْمَعَانِي الْخَالِصَةِ.
ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ عِنْدَ أَهْلِ الطَّرْدِ جَائِزٌ، وَلَكِنْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَنَّ أَهْلَ الطَّرْدِ زَعَمُوا أَنَّ الْعِلَلَ قِيَاسِيَّةٌ لَا تَقْبَلُ الْخُصُوصَ وَسَمَّوْا الْخُصُوصَ نَقْضًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْوَصْفِ فَلَمْ يَجُزْ وُجُودُهُ بِلَا مَانِعٍ، وَلَا حُكْمٍ لَهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَشَدُّ إنْكَارًا لِلتَّخْصِيصِ مِنْ أَهْلِ التَّأْثِيرِ ثُمَّ إذَا تَأَمَّلْت فِيمَا ذَكَرَ الْفَرِيقَانِ عَرَفْت أَنَّ الْخِلَافَ رَاجِعٌ إلَى الْعِبَارَةِ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، وَفِي مَوْضِعِ التَّخَلُّفِ الْحُكْمُ مَعْدُومٌ بِلَا شُبْهَةٍ إلَّا أَنَّ الْعَدَمَ مُضَافٌ إلَى مَانِعٍ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ، وَمِمَّا يُضَافُ فِيهِ عَدَمُ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ قَوْلُنَا فِي الزِّنَا كَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ فَأُقِيمَ أَيْ الزِّنَا مَقَامَ الْوَلَدِ. فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَيْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ عَدَمُ تَحْرِيمِ أَخَوَاتِ الْمُزَنِيَّةِ بِهَا وَعَمَّاتِهَا وَخَالَاتِهَا حَيْثُ لَمْ يَصِرْنَ كَأَخَوَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالَاتِهِ حَتَّى حَلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ. أَنَّهُ أَيْ عَدَمَ تَحْرِيمِهِنَّ مَخْصُوصٌ بِالنَّصِّ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ، وَهِيَ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَثْبُتْ لِمَانِعٍ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: ٢٤] فَإِنَّهُ يُوجِبُ إبَاحَةَ غَيْرِ الْمَذْكُورَاتِ. أَوْ قَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: ٢٣] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» الْحَدِيثَ فَإِنَّهُمَا يُوجِبَانِ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ نِكَاحًا أَوْ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا حُرْمَةَ الذَّوَاتِ فَخُصَّتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ.
، وَقُلْنَا فِي هَذَا أَيْ فِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ مُعَارَضَةُ النَّصِّ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُوجِبَةَ لِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: ٢٣] {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: ٢٣] {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: ٢٢] {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: ٣١] تُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْآبَاءِ وَالْبَنِينَ خَاصَّةً فَلَوْ أَثْبَتْنَا حُرْمَةَ الْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِنَّ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ الزِّنَا لَازْدَادَ حُكْمُ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ عَلَى حُكْمِهِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ النِّكَاحُ فَيَكُونُ هَذَا تَغْيِيرًا لِلنَّصِّ، وَإِثْبَاتًا لِحُرْمَةٍ أُخْرَى بِالْعِلَّةِ فِي مُعَارَضَةِ النَّصِّ إذْ الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ الْمُمْتَدَّةُ إلَى الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ غَيْرُ الْحُرْمَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِلنَّصِّ بِوَجْهٍ بَلْ تَعْدَمُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ.
وَهَذَا مِنْ أَمْثِلَةِ عَدَمِ الْعِلَّةِ لِفَوَاتِ وَصْفٍ مِنْهَا، وَهُوَ عَدَمُ تَحَقُّقِ شَرْطِهَا إذْ مِنْ شَرْطِهَا عَدَمُ النَّصِّ عَلَى مَا مَرَّ. وَمَنْ أَحْكَمَ الْمَعْرِفَةَ، وَأَحْسَنَ الطَّوِيَّةَ أَيْ الْعَقِيدَةَ يَعْنِي تَرَكَ التَّعَنُّتَ وَتَأَمَّلَ عَنْ إنْصَافٍ سَهُلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْجُمَلِ الَّتِي لَمْ نَذْكُرْهَا وَيَتَرَاءَى أَنَّهَا تَخْصِيصٌ. عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ إضَافَةُ عَدَمِ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا أَنَّ عِلَلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute