للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: ١٠١] لَيْسَ بِشَرْطٍ عَادَةً بَلْ هُوَ شَرْطٌ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ مَا وُضِعَ لَهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصِّ قَصْرُ الْأَحْوَالِ وَهُوَ أَنْ يُومِئَ عَلَى الدَّابَّةِ وَيُخَفِّفَ الْقِرَاءَةَ وَالتَّسْبِيحَ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ} [البقرة: ٢٣٩] .

وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: ١٠٣] وَقَصْرُ الْأَحْوَالِ يَتَعَلَّقُ بِقِيَامِ الْخَوْفِ عِيَانًا لَا بِنَفْسِ السَّفَرِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: ٢٣] فَلَمْ يَذْكُرْ الْحُجُورَ شَرْطًا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ قَوْلُهُ {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: ٢٣] وَهُوَ شَرْطٌ اسْمًا وَحُكْمًا

ــ

[كشف الأسرار]

بِعَدَمِ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْكِتَابَةِ.

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: ٣٣] الْآيَةَ قَوْلُهُ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: ١٠١] غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ مَا وُضِعَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ قَصْرُ الْأَحْوَالِ لَا قَصْرُ الذَّاتِ كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَصْرُ الْأَحْوَالِ أَنْ يَقْصُرَ عَنْ بَعْضِ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ كَالْأَدَاءِ رَاكِبًا بِإِيمَاءٍ وَالْإِيجَازِ فِي الْقِرَاءَةِ وَتَخْفِيفِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَرْكِ الِاعْتِدَالِ فِي الْأَرْكَانِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: ٢٣٩] أَيْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ خَوْفٌ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَرِجَالًا جَمْعُ رَاجِلٍ كَقَائِمٍ وَقِيَامٍ أَيْ عَلَى أَقْدَامِكُمْ أَوْ رُكْبَانًا بِإِيمَاءٍ {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: ١٩٦] فَإِذَا زَالَ خَوْفُكُمْ فَاذْكُرُوا أَيْ صَلُّوا كَمَا عَلَّمَكُمْ مِنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ فَعَلَّقَ بِالْخَوْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَصْرَ الْأَحْوَالِ لَا قَصْرَ الذَّاتِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} [النساء: ١٠٣] أَيْ أَمِنْتُمْ مِنْ الْعَدُوِّ {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: ١٠٣] أَيْ أَطِيلُوا قِيَامَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِحَالِ الْحَضَرِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ السُّدِّيَّ وَغَيْرِهِ فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لِبَيَانِ مَا يُبَاحُ بِالْخَوْفِ مِنْ قَصْرِ الْأَحْوَالِ وَقَصْرُ الْأَحْوَالِ أَيْ جَوَازُهُ وَسُقُوطُ كَرَاهَتِهِ يَتَعَلَّقُ بِقِيَامِ الْخَوْفِ عِيَانًا فَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْضًا فَإِنْ قِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ شَرْطَانِ الْخَوْفُ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْقَصْرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا ثُمَّ الْمُتَعَلِّقُ بِالضَّرْبِ قَصْرُ الذَّاتِ لَا قَصْرُ الْأَحْوَالِ إذْ هُوَ ثَابِتٌ فِي حَالَةِ الْإِقَامَةِ أَيْضًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالْخَوْفِ قَصْرُ الذَّاتِ أَيْضًا قُلْنَا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لَيْسَ لِتَعْلِيقِ الْقَصْرِ بِهِ بَلْ الشَّرْطُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ الْقَصْرُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ إذَا دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا كَانَ الطَّلَاقُ مُتَعَلِّقًا بِالْكَلَامِ لَا بِالدُّخُولِ وَكَانَ الدُّخُولُ شَرْطَ الِانْعِقَادِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ الْقَصْرُ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ بَلْ بِالْخَوْفِ هَذَا مُوجِبُ اللُّغَةِ وَالْقَصْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْخَوْفِ قَصْرُ الْأَحْوَالِ لَا قَصْرُ الذَّاتِ غَيْرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْقَصْرِ بِالْخَوْفِ بَعْدَ وُجُودِ الضَّرْبِ لَكِنْ تُرِكَ هَذَا بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْقَصْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخَوْفِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَقَدُّمُ السَّفَرِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي قَصْرِ الذَّاتِ يُشْتَرَطُ السَّفَرُ دُونَ الْخَوْفِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ النَّصِّ.

وَلَا يُقَالُ نَحْنُ نُعَلِّقُ قَصْرَ الذَّاتِ بِالضَّرْبِ وَنَتْرُكُ مُقْتَضَى قَوْلِهِ إنْ خِفْتُمْ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لَا يَصْلُحُ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ الثَّانِي فَكَانَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ أَوْلَى وَلَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ يَلْزَمُ مِمَّا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ خُلُوُّ صِيغَةِ الشَّرْطِ عَنْ مَعْنَاهُ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} [النساء: ١٠١] كَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِمَّا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ} [النساء: ٣] فَلَا يُجْدِيكُمْ هَذَا التَّأْوِيلُ نَفْعًا؛ لِأَنَّ خُلُوَّ الصِّيغَةِ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَازِمٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ وَلَا يَنْفَعُكُمْ التَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ وَاقِعٌ فِيهِ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِجَوَازِ خُلُوِّهِ عَنْ مَعْنَاهُ بِلَا دَلِيلٍ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: ٢٣] فَلَمْ يَذْكُرْ الْحُجُورَ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ أَيْ لَيْسَ بِشَرْطِ صِيغَةٍ إذْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّرْطِ وَلَا دَلَالَةَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: ٢٣] مُعَرَّفٌ وَالْوَصْفُ فِي الْمُعَرَّفِ لَا يُفِيدُ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>