للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِمَا اسْتَقْبَحَهُ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ فَوْقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يَثْبُتَ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَوْ تُقَبِّحُهُ وَجَعَلُوا الْخِطَابَ مُتَوَجِّهًا بِنَفْسِ الْعَقْلِ وَقَالُوا لَا عُذْرَ لِمَنْ عَقَلَ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فِي الْوَقْفِ عَنْ الطَّلَبِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ وَقَالُوا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مُكَلَّفٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَقَالُوا فِيمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَلَمْ يَعْتَقِدْ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَغَفَلَ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ أَنْ لَا عِبْرَةَ بِالْعَقْلِ أَصْلًا دُونَ السَّمْعِ وَإِذَا جَاءَ السَّمْعُ فَلَهُ الْعِبْرَةُ لَا لِلْعَقْلِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

ــ

[كشف الأسرار]

فَوْقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِذَوَاتِهَا بَلْ هِيَ أَمَارَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَجْرِي فِيهَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ وَالْعَقْلُ بِذَاتِهِ مُوجِبٌ وَمُحَرِّمٌ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا التَّبْدِيلُ فَكَانَ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فَوْقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فِيهِ أَنَّ الشَّرْعَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَارِدًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ لَحَكَمَ الْعَقْلُ بِوُجُوبِهَا وَحُرْمَتِهَا وَلَمْ يَتَوَقَّفْ ثُبُوتُهُمَا عَلَى السَّمْعِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ نُورُ الدِّينِ الصَّابُونِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ بِالْعَقْلِ لَيْسَ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ بِفِعْلِهِ أَوْ الْعِقَابِ بِتَرْكِهِ إذْ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِوُرُودِ السَّمْعِ وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ إمْكَانُ الْوُقُوفِ عَلَيْهِمَا فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِاللُّزُومِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوُجُوبِ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْعَقْلِ نَوْعُ تَرْجِيحٍ لِلْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِخَالِقِهِ وَإِضَافَةِ وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ إلَى إيجَادِهِ وَإِبْقَائِهِ وَمِنْ الْحُرْمَةِ أَنْ يَثْبُتَ نَوْعُ تَرْجِيحٍ لِلْمَنْعِ عَنْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَالِكِهِ وَاعْتِرَافٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ بِحَيْثُ لَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ أَنَّ التَّرْكَ وَالْإِتْيَانَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ نَعْقِلُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ يُوجِبُ نَوْعَ مِدْحَةٍ وَالِامْتِنَاعَ عَنْهُ يُوجِبُ نَوْعَ لَائِمَةٍ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ذَلِكَ يَعْنِي يَعْرِفُ بِالْعَقْلِ تَرْجِيحَ جَانِبِ الْوُجُودِ أَوْ الْعَدَمِ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ أَوْ غَيْرُهُمَا وَكَذَا الشُّكْرُ إظْهَارُ النِّعْمَةِ مِنْ الْمُنْعِمِ وَمَتَى عَرَفَ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكُفْرَانُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ عَقْلَهُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يَثْبُتَ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ مَا لَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَوْ تُقَبِّحُهُ فَأَنْكَرُوا ثُبُوتَ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا قَائِلِينَ بِأَنَّ رُؤْيَةَ مَوْجُودٍ بِلَا جِهَةٍ وَكَيْفَ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلرُّؤْيَةِ مِنْ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمَسَافَةٍ مُقَدَّرَةٍ لَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَلَا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِمَّا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ بِثُبُوتِهَا النَّصُّ.

وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَابِهَ مِمَّا لَا حَظَّ لِلرَّاسِخِينَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إنْزَالُ الْمُتَشَابِهِ أَمْرًا بِاعْتِقَادِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَنْكَرُوا أَنْ تَكُونَ الْقَبَائِحُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي دَاخِلَةً تَحْتَ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَلِأَنَّ إضَافَتَهَا إلَى إرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مِمَّا يُقَبِّحُهُ الْعُقُولُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ وَجَعَلُوا الْخِطَابَ أَيْ التَّكْلِيفَ بِالْإِيمَانِ مُتَوَجِّهًا بِنَفْسِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلٌ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمْ فَوْقَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ فَإِذَا صَارَ الْإِنْسَانُ بِحَالٍ يَحْتَمِلُ عَقْلُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ فِي حَقِّهِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَقَالُوا لَا عُذْرَ لِمَنْ عَقَلَ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فِي الْوَقْفِ أَيْ الْوُقُوفِ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مُكَلَّفًا بِالْإِيمَانِ وَكَانَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ أَصْلًا وَنَشَأَ عَلَى شَاهِقِ جَبَلٍ فَلَمْ يَعْتَقِدْ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِوُجُودِ مَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ لَا عِبْرَةَ بِالْعَقْلِ أَصْلًا يَعْنِي لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحِهَا بِدُونِ السَّمْعِ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي إيجَابِ الْأَشْيَاءِ وَتَحْرِيمِهَا بِحَالٍ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ السَّمْعُ حَتَّى أَبْطَلُوا إيمَانَ الصَّبِيِّ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ فِي حَقِّهِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِ عَقْلِهِ فَكَانَ إيمَانُهُ مِثْلَ إيمَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>