وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ ثَبَتَ أَنَّ السُّكْرَ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ الْأَهْلِيَّةِ فَيَلْزَمُهُ أَحْكَامُ الشَّرْعِ كُلُّهَا وَيَصِحُّ عِبَارَاتُهُ كُلُّهَا بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْبَيْعِ وَالشَّرْيِ وَالْأَقَارِيرِ وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالسُّكْرِ الْقَصْدُ دُونَ الْعِبَارَةِ حَتَّى إنَّ السَّكْرَانَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ اسْتِحْسَانًا
ــ
[كشف الأسرار]
فَلَا تُصَلُّوا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ كَقَوْلِك لِلْعَاقِلِ إذَا جُنِنْت فَلَا تَفْعَلْ كَذَا وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ إضَافَةُ الْخِطَابِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ وَلَمَّا صَحَّ هَاهُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْخِطَابِ فِي حَالَةِ السُّكْرِ فَإِنْ قِيلَ السُّكْرُ يُعْجِزُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَفَهْمِ الْخِطَابِ كَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْخِطَابُ عَنْهُ أَوْ يَتَأَخَّرَ كَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَا يَصِحَّ مِنْهُ مَا تُبْتَنَى عَلَى صِحَّةِ الْعِبَارَةِ.
قُلْنَا الْخِطَابُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْعَبْدِ بِاعْتِدَالِ الْحَالِ وَأُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مُقَامَهُ تَيْسِيرًا لِعُذْرِ لِلْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَبِالسُّكْرِ لَا يَفُوتُ هَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قُدْرَتُهُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ إنْ فَاتَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْخِطَابِ أَوْ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَإِلَى الْحَرَجِ فَأَمَّا إذَا فَاتَتْ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ عُدَّتْ قَائِمَةً زَجْرًا عَلَيْهِ فَبَقِيَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي وُسْعِهِ دَفْعُ السُّكْرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الشُّرْبِ كَانَ هُوَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الشُّرْبِ مُضَيِّعًا لِلْقُدْرَةِ فَيَبْقَى التَّكْلِيفُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ وَإِنْ لَمْ تَبْقَ فِي حَقِّ الْأَدَاءِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ بَقِيَ التَّكْلِيفُ بِالْعِبَادَاتِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْأَدَاءُ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّكْرَانَ مُخَاطَبٌ ثَبَتَ أَنَّ السُّكْرَ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ الْأَهْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، وَالسُّكْرُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ بِالْإِعْدَامِ فَيَلْزَمُهُ أَحْكَامُ الشَّرْعِ كُلُّهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا وَتَصِحُّ عِبَارَاتُهُ كُلُّهَا بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَوْ اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا؛ لِأَنَّ غَفْلَتَهُ فَوْقَ غَفْلَةِ النَّائِمِ فَإِنَّ النَّائِمَ يَنْتَبِهُ إذَا نُبِّهَ وَالسَّكْرَانُ لَا يَنْتَبِهُ ثُمَّ طَلَاقُ النَّائِمِ وَعَتَاقِهِ لَا يَقَعُ فَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَعَتَاقُهُ أَوْلَى وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ.
وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَإِقْرَارُهُ وَتَزْوِيجُهُ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ وَتَزَوُّجُهُ وَإِقْرَاضُهُ وَاسْتِقْرَاضُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ كَالصَّاحِي وَبِالسُّكْرِ لَا يَنْعَدِمُ عَقْلُهُ إنَّمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ السُّرُورُ فَيَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَصَرُّفِهِ سَوَاءٌ شَرِبَ مُكْرَهًا أَوْ طَائِعًا كَذَا فِي أَشْرِبَةِ الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ مُكْرَهًا ثُمَّ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ اخْتَلَفُوا بِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالسُّكْرِ الْقَصْدُ أَيْ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ نُورِ الْعَقْلِ وَقَدْ احْتَجِبْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالسُّكْرِ دُونَ الْعِبَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجَدُ حِسًّا وَصِحَّتُهَا تُبْتَنَى عَلَى أَهْلِ الْعَقْلِ حَتَّى إنَّ السَّكْرَانَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ كَالصَّاحِي فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْتَنَى عَلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِقَادِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُهُ بَعْدَ الصَّحْوِ وَمَا كَانَ عَنْ عَقْدِ الْقَلْبِ لَا يُنْسَى خُصُوصًا الْمَذَاهِبُ فَإِنَّهَا تُخْتَارُ عَنْ فِكْرٍ وَرُؤْيَةٍ وَعَمَّا هُوَ الْأَحَقُّ مِنْ الْأُمُورِ عِنْدَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا عَمَلَ اللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ فَلَا يَكُونُ اللِّسَانُ مُعَبِّرًا عَمَّا فِي الضَّمِيرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute