إذَا كَانَ مُبَاحًا مُقَيَّدًا وَهُوَ مِمَّا يُتَلَهَّى بِهِ فِي الْأَصْلِ وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا جُعِلَ عُذْرًا. وَأَمَّا مَا تَعْتَمِدُ الِاعْتِقَادَ مِثْلُ الرِّدَّةِ فَإِنْ ذَلِكَ لَا يُثْبِتُ اسْتِحْسَانًا لِعَدَمِ رُكْنِهِ لَا أَنَّ السُّكْرَ جُعِلَ عُذْرًا وَمَا يُبْتَنَى عَلَى صِحَّةِ الْعِبَارَةِ فَقَدْ وُجِدَ رُكْنُهُ وَالسُّكْرُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا.
وَأَمَّا الْحُدُودُ فَإِنَّهَا تُقَامُ عَلَيْهِ إذَا صَحَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّكْرَ بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِعُذْرٍ وَلَا شُبْهَةٍ إلَّا أَنَّ مِنْ عَادَةِ السُّكْرِ أَنَّ اخْتِلَاطَ الْكَلَامِ هُوَ أَصْلُهُ وَلَا ثَبَاتَ لَهُ عَلَى الْكَلَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا أَنَّ السُّكْرَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ هَذَا الْحَدِّ وَقَدْ زَادَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَقِّ الْحُدُودِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ فِي غَيْرِ الْحَدِّ هُوَ أَنْ يَخْتَلِطَ كَلَامُهُ وَيَهْذِيَ غَالِبًا وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أُقِيمَ السُّكْرُ مَقَامَ الرُّجُوعِ فَلَمْ تَعْمَلْ فِيمَا يُعَايَنُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَدِّ وَعُمِلَ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ
ــ
[كشف الأسرار]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى دَلَائِلِ مَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا لَمْ يُوضَعْ عَنْ السَّكْرَانِ إلَى آخِرِهِ فَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ أَيْ سَبَبُ السُّكْرِ مَعْصِيَةً بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ الْبَاذَقَ أَوْ نَحْوَهُمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَمْ يُعَدَّ السُّكْرَ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَذَا الْحُكْمُ إنْ كَانَ سَبَبُهُ مُبَاحًا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ الِاحْتِرَازِ عَنْ السُّكْرِ وَذَلِكَ السَّبَبُ مِمَّا يُتَلَهَّى بِهِ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ كَالْمُثَلَّثِ وَنَبِيذِ الزَّبِيبِ الْمَطْبُوخِ الْمُعَتَّقِ وَنَحْوِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مِمَّا يُتَلَهَّى بِهِ بَيَانُ التَّقْيِيدِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ السُّكْرِ فِيمَا يُتَلَهَّى بِهِ لَا فِي غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ سَبَبُهُ مُبَاحًا يَعْنِي عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ السُّكْرِ كَالْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا جُعِلَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ لِلتَّلَهِّي فِي الْأَصْلِ بَلْ هِيَ لِلتَّغَذِّي وَلَا أَثَرَ لِتَغَيُّرِهَا فِي الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ الطَّعَامِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ وَكَذَا نَفْسُ الشِّدَّةِ لَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّهَا تُوجَدُ فِي بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ كَالْبَنْجِ وَفِي بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ كَاللَّبَنِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
قَوْلُهُ (لِأَنَّ السُّكْرَ جُعِلَ عُذْرًا) إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ قَدْ جُعِلَ السُّكْرُ الْمَحْظُورُ عُذْرًا فِي الرِّدَّةِ حَتَّى مَنَعَ صِحَّتَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا فِي غَيْرِهَا أَيْضًا فَقَالَ عَدَمُ صِحَّةِ الرِّدَّةِ لِفَوَاتِ رُكْنِهَا وَهُوَ تَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ، لَا لِأَنَّ السُّكْرَ جُعِلَ عُذْرًا فِيهَا بِخِلَافِ مَا يُبْتَنَى عَلَى الْعِبَارَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ مِثْلُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعُقُودِ؛ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ تَحَقَّقَ فِيهَا مِنْ الْأَهْلِ مُضَافًا إلَى الْمَحَلِّ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا إلَّا أَنَّ أَيْ لَكِنْ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ أَمَّا الْحُدُودُ فَإِنَّهَا تُقَامُ عَلَيْهِ يَعْنِي السُّكْرُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ السَّكْرَانِ اخْتِلَاطَ الْكَلَامِ وَعَدَمَ الثَّبَاتِ عَلَى كَلَامٍ هُوَ أَصْلُهُ أَيْ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ أَصْلٌ فِي السُّكْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا اتَّفَقُوا أَنَّ السُّكْرَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ هَذَا الْحَدِّ أَيْ بِدُونِ اخْتِلَاطِ الْكَلَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ وَزَادَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى اشْتِرَاطِ اخْتِلَاطِ الْكَلَامِ لِثُبُوتِ السُّكْرِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرْطًا آخَرَ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَقَالَ السُّكْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَا الْأُنْثَى مِنْ الذَّكَرِ اعْتِبَارًا لِلنِّهَايَةِ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ كَمَا فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ كَانَ مُسْتَعْمِلًا لِعَقْلِهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةَ السُّكْرِ وَفِي الْيَقْظَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ أَيْ حَدُّ السُّكْرِ عَلَى قَوْلِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ مِنْ الْأَحْكَامِ هُوَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ وَغَلَبَةُ الْهَذَيَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَلَا ارْتِدَادُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَنْ اخْتَلَطَ كَلَامُهُ بِالشُّرْبِ يُعَدُّ سَكْرَانَ فِي النَّاسِ عُرْفًا وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ وَافَقَهُمَا يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السُّكْرِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الشُّرْبُ هُوَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّهَايَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ فَأَمَّا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ فَيُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالِاحْتِيَاطِ قَالَ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ السَّكْرَانُ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ أَوْ كَانَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ أَصْلًا فِي السُّكْرِ أُقِيمَ السُّكْرُ مُقَامَ الرُّجُوعِ إلَى آخِرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute