فَأَمَّا هَا هُنَا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي الْعَقْدِ مَعَ الْمُوَاضَعَةِ بِالْهَزْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ لِغَيْرِ ثَمَنٍ فَصَارَ الْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي الْعَقْدِ أَوْلَى.
وَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مَا لَا مَالَ فِيهِ وَمَا كَانَ الْمَالُ فِيهِ تَبَعًا وَمَا كَانَ الْمَالُ فِيهِ مَقْصُودًا أَمَّا الَّذِي لَا مَالَ فِيهِ هُوَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ وَالْهَزْلُ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ» وَلِأَنَّ الْهَازِلَ مُخْتَارٌ لِلسَّبَبِ رَاضٍ بِهِ دُونَ حُكْمِهِ وَحُكْمُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَالُ تَبَعًا مِثْلَ النِّكَاحِ فَعَلَى أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَهْزِلَا بِأَصْلِهِ أَوْ بِقَدْرِ الْبَدَلِ أَوْ بِجِنْسِهِ أَمَّا الْهَزْلُ بِأَصْلِهِ فَبَاطِلٌ وَالْعَقْدُ لَازِمٌ
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَمْ يَذْكُرَا فِي الْعَقْدِ مَا قَصَدَا أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا وَلَا يُكْتَفَى بِالذِّكْرِ قَبْلَ الْعَقْدِ بَلْ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْبَدَلِ فِيهِ فَبَقِيَ الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَهُمَا قَصَدَا الْجِدَّ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ هَاهُنَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ بِمَا سَمَّيَا مِنْ الْبَدَلِ يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعَاقَدَةَ بَعْدَ الْمُعَاقَدَةِ فِي الْبَيْعِ إبْطَالٌ لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا بِمِائَةِ دِينَارٍ ثُمَّ تَبَايَعَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ الْبَيْعُ الثَّانِي مُبْطِلًا لِلْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ الْمُوَاضَعَةِ بِخِلَافِ جِنْسِ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ مُبْطِلًا لِلْمُوَاضَعَةِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيْنَ هَذَا أَيْ بَيْنَ الْهَزْلِ فِي جِنْسِ الْبَدَلِ وَبَيْنَ الْهَزْلِ فِي قَدْرِهِ وَقَالَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ هُنَاكَ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُوَاضَعَتَيْنِ وَهُمَا الْمُوَاضَعَةُ عَلَى صِحَّةِ أَصْلِ الْعَقْدِ وَالْمُوَاضَعَةُ عَلَى الْهَزْلِ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُجْعَلَ الْعَقْدُ مُنْعَقِدًا بِأَلْفٍ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ فِي الْأَلْفَيْنِ مَوْجُودٌ وَالْهَزْلُ بِالْأَلْفِ الْآخَرِ شَرْطٌ لَا طَالِبَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ ذَكَرَاهُ فِي الْعَقْدِ لَا يَطْلُبُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ هَزْلٌ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ وَكُلُّ شَرْطٍ لَا طَالِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ كَمَا إذَا اشْتَرَى فَرَسًا عَلَى أَنْ يَعْلِفَهُ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا مَنًا مِنْ الشَّعِيرِ أَوْ اشْتَرَى حِمَارًا عَلَى أَنْ لَا يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ كَذَا مَنًا مِنْ الْحِنْطَةِ لَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ كَذَا هُنَا.
وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَيَبْطُلُ الْآخَرُ فَأَمَّا هَاهُنَا أَيْ فِي الْهَزْلِ بِجِنْسِ الْبَدَلِ فَالْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي الْعَقْدِ وَهِيَ أَنْ يَقَعَ الْعَقْدُ صَحِيحًا مَعَ الْمُوَاضَعَةِ بِالْهَزْلِ أَيْ مَعَ الْعَمَلِ بِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِمَا ذُكِرَ فَصَارَ الْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي الْعَقْدِ وَهِيَ أَنْ يَنْعَقِدَ صَحِيحًا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَصْلٌ وَالثَّمَنَ تَبَعٌ وَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا إلَّا بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ فَلِذَلِكَ انْعَقَدَ الْبَيْعُ عَلَى الدَّنَانِيرِ الْمُسَمَّاةِ لَا عَلَى الدَّرَاهِمِ.
قَوْلُهُ (أَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ) أَيْ لَا يَجْرِي فِيهِ الْفَسْخُ وَالْإِقَالَةُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَكَذَا لَا مَالَ فِيهِ أَصْلًا أَيْ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ فِيهِ بِدُونِ الشَّرْطِ وَالذِّكْرِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ» الْحَدِيثُ فَفِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَفِي الْبَاقِي ثَابِتٌ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ كَذَا قِيلَ وَحُكْمُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَيْ الْعِلَلِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِيَ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِالْإِقَالَةِ وَالْفَسْخِ وَلَا التَّرَاخِي بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَبِالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُؤَثِّرُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَلْ يَبْطُلُ وَالتَّعْلِيقُ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ يُؤَخِّرُ السَّبَبَ بِحُكْمِهِ إلَى حِينِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الْمُضَافُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ فِي الْحَالِ وَقَدْ تَرَاخَى حُكْمُهُ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْعِلَلُ، وَالطَّلَاقُ الْمُضَافُ سَبَبٌ مُفْضٍ إلَى الْوُقُوعِ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْحَالِ وَلِهَذَا لَا يَسْتَنِدُ حُكْمُهُ إلَى وَقْتِ الْإِيجَابِ وَلَوْ كَانَ عِلَّةً لَاسْتَنَدَ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَا تَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ أَحْكَامِهَا فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْهَزْلُ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ خِيَارُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَإِذَا انْعَقَدَ وُجِدَ حُكْمُهُ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الرَّدَّ وَالْفَسْخَ، وَحُكْمُهُ يَقْبَلُ التَّرَاخِيَ عَنْهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلَا جَرَمَ أَثَّرَ فِيهِ الْهَزْلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَيْ هَذَا النَّوْعَ.
قَوْلُهُ (أَمَّا الْهَزْلُ بِأَصْلِهِ فَبَاطِلٌ) وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَك بِأَلْفٍ تَزَوُّجًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute