للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّالِثُ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمَدْيُونِ أَنْ يُلْجِئَ أَمْوَالَهُ بِبَيْعٍ أَوْ إقْرَارٍ فَيَحْجُرَ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ إلَّا مَعَ هَؤُلَاءِ الْغُرَمَاءِ وَالرَّجُلُ غَيْرُ سَفِيهٍ فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ لِيُعْلَمَ أَنَّ طَرِيقَ الْحَجْرِ عِنْدَهُمَا النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ السَّفَهُ مِنْ أَسْبَابِ النَّظَرِ فَلَا لَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَضْلِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ.

ــ

[كشف الأسرار]

إذَا أَبَى أَنْ يُفَارِقَهَا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩] وَبَيْعُ الْمَالِ عَلَى الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ وَبِأَنَّ بَيْعَ الْمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَبَيْعُ الْمَالِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهِ بِالِاسْتِيهَابِ وَالِاسْتِقْرَاضِ وَسُؤَالِ الصَّدَقَةِ مِنْ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي تَعْيِينُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَةِ بَيْعِ مَالِهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ.

الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ جَازَ لَهُ بَيْعُ مَالِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِحَبْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ وَبِالْغُرَمَاءِ فِي تَأْخِيرِ وُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَيْهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ عَبْدِ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ إصْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى الشِّرْكِ إخْرَاجَ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ. وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعِنِّينِ لَمَّا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِعَيْنِهِ فَأَمَّا مُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ وَمَالُهُ دَنَانِيرَ فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ هَذِهِ الْمُصَارَفَةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُفْعَلُ ذَلِكَ. الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ جِنْسَانِ صُورَةً، وَجِنْسٌ وَاحِدٌ مَعْنًى وَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ صُورَةً كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِهِ دَيْنَهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ مَعْنًى وَلَكِنْ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ صُورَةً وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا حُكْمًا فَلِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ صُورَةً لَا يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِأَخْذِهِ وَلِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ مَعْنًى كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّمَا بَاعَ مَالَهُ بِسُؤَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَفَاءً بِدَيْنِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَ مَالِهِ لِيَنَالَ مَالُهُ بَرَكَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَصِيرَ وَفَاءً بِدَيْنِهِ.

وَهَذَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَأْمُرُ الْقَاضِي الْمَدْيُونَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوَّلًا فَإِذَا امْتَنَعَ فَحِينَئِذٍ يَبِيعُ مَالَهُ وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْبَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ بِبَيْعِ مَالِهِ حَقٌّ يَحْتَاجُ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَإِنَّهُ كَانَ سَمْحًا جَوَادًا لَا يَمْنَعُ أَحَدًا شَيْئًا وَلِأَجْلِهِ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ بِمَالِهِ بَعْدَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَشْهُورُ فِي حَدِيثِ أُسَيْفِعَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إنِّي قَاسِمٌ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مَالَهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ دَيْنِهِ وَإِنْ ثَبَتَ الْبَيْعُ فَإِنَّمَا كَانَ بِرِضَاهُ.

أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِيَ لَا يَبِيعُهُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْغُرَمَاءَ طَالَبُوهُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ أَنَّهُ ابْتَدَأَهُمْ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَغْدُوَا إلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

قَوْلُهُ (وَالثَّالِثُ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمَدْيُونِ) إلَى آخِرِهِ إذَا خِيفَ عَلَى مَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ أَنْ يُلْجِئَ مَالَهُ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيْعِ فَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لَا يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ وَبَعْدَ الْحَجْرِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ عِنْدَ الْحَجْرِ وَيُنْفِذُ تَصَرُّفَاتِهِ فِيمَا يَكْتَسِبُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَهُ وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا جَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ فَلِذَلِكَ يَحْجُرُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا لَا يَحْجُرُ عَلَى الْمَدْيُونِ نَظَرًا لَهُ لَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ لِمَا فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّظَرُ لِغُرَمَائِهِ بِطَرِيقٍ لَا يَكُونُ فِيهِ أَلْحَقَ الضَّرَرَ بِهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَهُوَ الْحَبْسُ فِي الدَّيْنِ لِأَجْلِ ظُلْمِهِ الَّذِي تَحَقَّقَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ وَخَوْفِ التَّلْجِئَةِ ظُلْمٌ مَوْهُومٌ مِنْهُ فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَحَقِّقِ ثُمَّ الضَّرَرُ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ فَوْقَ الضَّرَرِ فِي حَبْسِهِ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الْأَدْنَى عَلَى ثُبُوتِ الْأَعْلَى كَمَا فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>