للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْمَعَانِي أَمَّا الْمَعَانِي فَقَدْ سَلَّمَ لَهُمْ الْعُلَمَاءُ حَتَّى سَمَّوْهُمْ أَصْحَابَ الرَّأْيِ وَالرَّأْيُ اسْمٌ لِلْفِقْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَهُمْ أَوْلَى بِالْحَدِيثِ أَيْضًا

ــ

[كشف الأسرار]

كَالْأُسْوَةِ مِنْ الْايتِسَاءِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَيُقَالُ فُلَانٌ قُدْوَةٌ أَيْ يُقْتَدَى بِهِ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُلَازِمُونَ طَرِيقَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ ثُمَّ مِنْ السُّنَّةِ ثُمَّ مِنْ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ الْقِيَاسِ وَيَسْلُكُونَ نَهْجَهُمْ وَلَا يَخْتَرِعُونَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مَا يُخَالِفُ طَرِيقَتَهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ وَاسْتِنْبَاطِهَا.

قَوْلُهُ (وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْمَعَانِي) وَلَمَّا طَعَنَ الْخُصُومُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ الرَّأْيِ دُونَ الْحَدِيثِ يَعْنُونَ بِهِ أَنَّهُمْ وَضَعُوا الْأَحْكَامَ بِاقْتِضَاءِ آرَائِهِمْ فَإِنْ وَافَقَ الْحَدِيثُ رَأْيَهُمْ قَبِلُوهُ وَإِلَّا قَدَّمُوا رَأْيَهُمْ عَلَى الْحَدِيثِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَعْنَهُمْ بِقَوْلِهِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ.

وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّيْخَ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَاظَرَ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي أَلْوَانِ تَحْصِيلِهِ بِبُخَارَى بِإِشَارَةِ أَخِيهِ شَيْخِ الْأَنَامِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْيُسْرِ وَأَفْحَمَهُ فَلَمَّا تَفَرَّقُوا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّ الْمَعَانِيَ قَدْ تَيَسَّرَتْ لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنْ لَا مُمَارَسَةَ لَهُمْ بِالْحَدِيثِ فَبَلَغَ الشَّيْخَ فَرَدَّهُ فِي هَذَا التَّصْنِيفِ وَقَالَ وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْمَعَانِي أَمَّا الْمَعَانِي فَقَدْ سَلَّمَ لَهُمْ الْعُلَمَاءُ أَيْ سَلَّمُوهَا لَهُمْ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا أَمَّا إجْمَالًا؛ فَلِأَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ أَصْحَابَ الرَّأْيِ تَعْبِيرًا لَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا سَمَّوْهُمْ بِذَلِكَ لِإِتْقَانِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَاسْتِخْرَاجِهِمْ الْمَعَانِي مِنْ النُّصُوصِ لِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ وَدِقَّةِ نَظَرِهِمْ فِيهَا وَكَثْرَةِ تَفْرِيعِهِمْ عَلَيْهَا وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ زَمَانِهِمْ فَنَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إلَى الْحَدِيثِ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ إلَى الرَّأْيِ وَالرَّأْيُ هُوَ نَظَرٌ الْقَلْبِ يُقَالُ رَأَى رَأْيًا بَدَلُ ديد وَرَأَى رُؤْيَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ بخواب ديد وَرَأَى رُؤْيَةً بجشم ديد وَفِي الْمُغْرِبِ الرَّأْيُ مَا ارْتَأْهُ الْإِنْسَانُ وَاعْتَقَدَهُ وَأَمَّا تَفْصِيلًا فَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اجْتَمَعْت مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَلَسْنَا أَوْقَاتًا وَكَلَّمْته فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ فَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَفْقَهَ مِنْهُ وَلَا أَغْوَصَ مِنْهُ فِي مَعْنَى وَحُجَّةٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي كُتُبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَتَفَقَّهَ بِهَا وَعَنْ حَرْمَلَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الْفِقْهِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَرَادَ الْفِقْهَ فَلْيَلْزَمْ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاَللَّهِ مَا صِرْت فَقِيهًا إلَّا بِاطِّلَاعِي فِي كُتُبِ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ لَحِقْته قَدْ لَازَمْت مَجْلِسَهُ وَبَلَغَ ابْنَ سُرَيْجٍ أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ فَدَعَاهُ وَقَالَ يَا هَذَا أَتَقَعُ فِي رَجُلٍ سَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعِلْمِ.

وَهُوَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمْ الرُّبْعَ قَالَ كَيْفَ ذَاكَ فَقَالَ الْعِلْمُ قِسْمَانِ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ وَأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسَائِلَ فَسُلِّمَ لَهُ النِّصْفُ ثُمَّ أَجَابَ فِيهَا وَوَافَقُوهُ فِي النِّصْفِ أَوْ أَكْثَرَ فَسُلِّمَ لَهُ الرُّبْعُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا خَالَفُوهُ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمْ ذَلِكَ فَبَقِيَ الرُّبْعُ مُتَنَازَعًا فِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُلِّ.

قَوْلُهُ (وَهُمْ أَوْلَى بِالْحَدِيثِ) أَيْ بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَيْضًا تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا أَمَّا تَفْصِيلًا فَلِمَا رُوِيَ عَنْ حَيِّ بْنِ آدَمَ أَنَّهُ قَالَ إنَّ فِي الْحَدِيثِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا كَمَا فِي الْقُرْآنِ، وَكَانَ النُّعْمَانُ جَمَعَ حَدِيثَ أَهْلِ بَلَدِهِ كُلِّهِ فَنَظَرَ إلَى آخِرِ مَا قُبِضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِهِ فَكَانَ فَقِيهًا وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: عَجَبًا لِلنَّاسِ يَقُولُونَ إنِّي أَقُولُ بِالرَّأْيِ وَمَا أُفْتِي إلَّا بِالْأَثَرِ وَعَنْ النَّضْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْآثَارِ

<<  <  ج: ص:  >  >>