للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ فَالْأُضْحِيَّةُ لَا مِثْلَ لَهَا وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ ثَبَتَتْ قُرْبَةً بِالنَّصِّ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ أَوْ قِيمَتِهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي بَابِ الْمَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّدَقَاتِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ نَقَلَ مِنْ الْأَصْلِ إلَى التَّضْحِيَةِ وَهُوَ نُقْصَانٌ فِي الْمَالِيَّةِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ

ــ

[كشف الأسرار]

فَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَبَرَّعَ بِهَا الْوَارِثُ قِيلَ لَا يُسْقِطُ الصَّلَوَاتِ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ فِيهِ مَعْدُومٌ أَصْلًا وَلِأَنَّهُ أَدْنَى رُتْبَةً مِنْ الْإِيصَاءِ فَيُحْكَمُ فِيهِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ إظْهَارًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ كَمَا فَعَلَ كَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ.

وَقِيلَ تَسْقُطُ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْإِيصَاءِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْجَوَازِ وَهُوَ الرَّجَاءُ إلَى فَضْلِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ يَشْمَلُ الْإِيصَاءَ وَالتَّبَرُّعَ جَمِيعًا يُوَضِّحُهُ ذُكِرَ فِي النَّوَازِلِ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَقَدْ فَاتَتْهَا صَلَوَاتُ عَشَرِ أَشْهُرٍ وَلَمْ تَتْرُكْ مَالًا فَقَالَ لَوْ اسْتَقْرَضَ وَرَثَتُهَا قَفِيزَ حِنْطَةٍ وَدَفَعُوهَا إلَى مِسْكِينٍ ثُمَّ يَهَبُهَا الْمِسْكِينُ لِبَعْضِ وَرَثَتِهَا يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمِسْكِينِ فَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ كَذَلِكَ حَتَّى يَتِمَّ لِكُلِّ صَلَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهَا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّبَرُّعَ فِيهِ كَالْإِيصَاءِ.

وَقَدْ لَزِمَ الشَّيْخَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى فَتَصَدَّى لَهَا أَيْضًا فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ لَا مِثْلَ لِلْأُضْحِيَّةِ عَقْلًا وَلَا نَصًّا وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الشَّاةُ الَّتِي عُيِّنَتْ لِلتَّضْحِيَةِ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالشِّرَاءِ الصَّادِرِ مِنْ الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ بَاقِيَةً بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِهَا حَيَّةً أَوْ بِالْقِيمَةِ فِيمَا إذَا اُسْتُهْلِكَتْ الشَّاةُ الْمُعَيَّنَةُ لِلتَّضْحِيَةِ بِالنَّذْرِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ كَانَ غَنِيًّا وَلَمْ يُضَحِّ أَصْلًا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ كَذَا فِي الْإِيضَاحِ وَالْمَبْسُوطِ قُلْنَا: لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ ثَبَتَتْ قُرْبَةً بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: ٣٦] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «ضَحُّوا» .

وَغَيْرُ ذَلِكَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ أَصْلًا فِي بَابِ التَّضْحِيَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي بَابِ الْمَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَهُوَ مُخَالَفَةُ هَوَى النَّفْسِ بِإِزَالَةِ الْمَحْبُوبِ مِنْ يَدِهِ يَحْصُلُ بِهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَيْ الشَّارِعَ نَقَلَ الْقُرْبَةَ مِنْ تَمْلِيكِ عَيْنِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إلَى الْإِرَاقَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَجْلِ تَطْبِيبِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْعِيدِ وَلِهَذَا كُرِهَ الْأَكْلُ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيَكُونَ أَوَّلَ مَا يَتَنَاوَلُونَ مِنْ طَعَامِ الضِّيَافَةِ وَمِنْ عَادَةِ الْكَرِيمِ أَنْ يُضَيِّفَ بِأَطْيَبَ مَا عِنْدَهُ وَمَالُ الصَّدَقَةِ يَصِيرُ مِنْ الْأَوْسَاخِ لِإِزَالَتِهِ الذُّنُوبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: ١٠٣] .

وَلِهَذَا حُرِّمَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَلَى مَنْ الْتَحَقَ بِهِ نَسَبًا لِكَرَامَتِهِمْ وَعَلَى الْغَنِيِّ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ فَلَا يَلِيقُ بِالْكَرِيمِ الْمُطْلَقِ الْغَنِيِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنْ يُضَيِّفَ عِبَادَهُ بِالطَّعَامِ الْخَبِيثِ، فَنَقَلَ الْقُرْبَةَ مِنْ عَيْنِ الشَّاةِ إلَى الْإِرَاقَةِ لِيَنْتَقِلَ الْخُبْثُ إلَى الدِّمَاءِ فَتَبْقَى اللُّحُومُ طَيِّبَةً فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الضِّيَافَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِاسْتِوَاءِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ مَا بَيَّنَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّضْحِيَةِ أَصْلًا دُونَ التَّصَدُّقِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِهَذَا الْمَوْهُومِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ فِي مُعَارَضَةِ الْمَنْصُوصِ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ، فَإِذَا فَاتَ الْمُتَيَقَّنُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَوْهُومِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ.

مَعَ الِاحْتِمَالِ أَيْ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَبَرًا احْتِيَاطًا أَيْضًا يَعْنِي كَمَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ احْتِيَاطًا.

وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّا أَوْجَبْنَا التَّصَدُّقَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَصْلًا لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مِثْلًا لَهَا قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ فِعْلُ التَّضْحِيَةِ أَوْ الذَّبْحِ (نُقْصَانٌ فِي الْمَالِيَّةِ) إلَى قَوْلِهِ فِي الْهِبَةِ مُعْتَرِضٌ فَنُبَيِّنُ الْمَسْأَلَةَ أَوَّلًا ثُمَّ نَكْشِفُ الْغَرَضَ عَنْ إيرَادِهَا فَنَقُولُ إذَا وَهَبَ شَاةً لِرَجُلٍ فَضَحَّى الْمَوْهُوبُ لَهُ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَهُ أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>