للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَا يَسْتَقِيمُ الرَّأْيُ إلَّا بِالْحَدِيثِ حَتَّى أَنَّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْحَدِيثَ أَوْ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَلَا يُحْسِنُ الرَّأْيَ فَلَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَالْفَتْوَى وَقَدْ مَلَأَ كُتُبَهُ مِنْ الْحَدِيثِ، وَمَنْ اسْتَرَاحَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ عَنْ بَحْثِ الْمَعَانِي وَنَكَلَ عَنْ تَرْتِيبِ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ انْتَسَبَ إلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا وَتَعْرِيفِ الْأُصُولِ بِفُرُوعِهَا عَلَى شَرْطِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ

ــ

[كشف الأسرار]

عَنْ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ كَانَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يُوتِرُ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ اسْتَنْجَى فَلْيُوتِرْ، وَنَظِيرُ الثَّانِي أَنَّ الرَّأْيَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُنْتَقَضَ الطَّهَارَةُ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَارِجَةٍ نَجِسَةٍ كَمَا هِيَ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَكِنْ ثَبَتَ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهَا حَدَثٌ فَوَجَبَ تَرْكُهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِسْقَاءُ فِي الصَّوْمِ لَا يَكُونُ نَاقِضًا لَهُ بِمُقْتَضَى الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ وَالصَّوْمُ إنَّمَا يَفْسُدُ مِمَّا يَدْخُلُ لَكِنْ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ فَيُتْرَكُ الرَّأْيُ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِ الْآخَرِ، وَلَا يَتَخَالَجَنَّ فِي وَهْمِك مَا وَقَعَ فِي وَهْمِ بَعْضِ الطَّلَبَةِ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَسْتَقِيم الْحَدِيثُ إلَّا بِالرَّأْيِ وَلَا الرَّأْيُ إلَّا بِالْحَدِيثِ مُقْتَضٍ لِلدَّوْرِ فَيَكُونُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الدَّوْرِ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرًا إلَى الْآخَرِ كَمَا إذَا قِيلَ لَا يُوجَدُ الْخَمْرُ إلَّا بِالْعِنَبِ وَلَا الْعِنَبُ إلَّا بِالْخَمْرِ فَيَبْطُلُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ بِمُفْتَقِرٍ فِي وُجُودِهِ إلَى الْحَدِيثِ وَلَا الْحَدِيثُ إلَى الرَّأْيِ وَلَكِنَّ افْتِقَارَ كُلِّ وَاحِدٍ إلَى الْآخَرِ فِي أَمْرٍ آخَرَ هُوَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْحَادِثَةِ كَعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يَفْتَقِرُ كُلُّ وَصْفٍ إلَى الْآخَرِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الدَّوْرِ فِي شَيْءٍ.

وَهُوَ كَمَا يُقَالُ لَا يَصِيرُ السُّكْرُ سَكَنْجَبِينًا إلَّا بِالْخَلِّ وَلَا يَصِيرُ الْخَلُّ كَذَلِكَ إلَّا بِالسُّكَّرِ فَكَانَ تَوَقُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي صَيْرُورَتِهِ سَكَنْجَبِينًا لَا فِي وُجُودِهِ فَكَذَا هَهُنَا فَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا يَسْتَقِيمُ الْحَدِيثُ إلَّا بِالرَّأْيِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَلَا الرَّأْيُ إلَّا بِالْحَدِيثِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ أَيْضًا وَلَيْسَ فِيهَا دَوْرٌ كَمَا تَرَى، يُقَالُ اسْتَرَاحَ فُلَانٌ بِزَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو أَيْ طَلَبَ رَاحَةَ نَفْسِهِ بِالِاشْتِغَالِ بِزَيْدٍ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ عَمْرٍو وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «مُسْتَرِيحٌ أَوْ مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» ، فَمَنْ اسْتَرَاحَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، أَيْ اكْتَفَى بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ بَحْثِ الْمَعَانِي، وَنَكَلَ عَنْ تَرْتِيبِ الْفُرُوعِ، أَيْ أَعْرَضَ مِنْ نَكَلَ عَنْ الْعَدُوِّ وَعَنْ الْيَمِينِ إذَا جَبُنَ، لِبَيَانِ النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا، أَيْ مَعَ مَعَانِيهَا الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ مِثْلُ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إلَى تَمَامِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَتَعْرِيفِ الْأُصُولِ بِفُرُوعِهَا، يَعْنِي بَيَّنَ فِيهِ الْأُصُولَ ثُمَّ بَنَى عَلَى كُلِّ أَصْلٍ فُرُوعَهُ مِمَّا يَلِيقُ ذِكْرُهُ فِيهِ، عَلَى شَرْطِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ، قَدْ صَنَّفَ الشَّيْخُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ كِتَابًا أَطْوَلَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَبَسَطَ فِيهِ الْكَلَامَ بَسْطًا، وَكَانَ فِي مُطَالَعَةِ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَوَعَدَ أَنَّ هَذَا التَّصْنِيفَ أَوْجَزَ مِنْهُ، وَمَا تَوْفِيقِي، مِنْ بَابِ إضَافَةِ الصَّدْرِ إلَى الْمَفْعُولِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْفَاعِلِ، فَإِنَّ التَّوْفِيقَ هَهُنَا مَصْدَرُ وُفِّقَ الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ لَا مَصْدَرُ وَفَّقَ أَيْ وَمَا كَوْنِي مُوَفَّقًا لِإِصَابَةِ الْحَقِّ فِيمَا قَصَدْت مِنْ تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَوُقُوعِهِ مُوَافِقًا لِرِضَاءِ اللَّهِ إلَّا بِمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتَوْفَقَ رَبَّهُ فِي إمْضَاءِ الْأَمْرِ عَلَى سُنَنِهِ وَطَلَبَ مِنْهُ التَّأْيِيدَ فِي ذَلِكَ، وَالتَّوْفِيقُ جَعْلٌ الشَّيْءِ مُوَافِقًا لِلشَّيْءِ وَتَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ أَفْعَالَهُ الظَّاهِرَةَ مُوَافِقَةً لِأَوَامِرِهِ مَعَ بَقَاءِ اخْتِيَارِهِ فِيهَا وَأَنَّ نِيَّاتِ قَلْبِهِ مُوَافِقَةٌ لِمَا يُحِبُّهُ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي حِصَصِ الْأَتْقِيَاءِ، وَالتَّوَكُّلُ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ مَعَ رِعَايَةِ الْأَسْبَابِ، وَالْإِنَابَةُ الْإِقْبَالُ إلَيْهِ. وَقِيلَ التَّوْبَةُ الرُّجُوعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ إلَى اللَّهِ وَالْأَوْبَةُ الرُّجُوعُ عَنْ الطَّاعَةِ إلَيْهِ بِأَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى طَاعَتِهِ بَلْ عَلَى فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَالْإِنَابَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>