لِأَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ فَكَفَّرَ بِالصَّوْمِ بَعْدَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ بِمَالِهِ قَالَ يُجْزِئُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَصْرِفْ إلَى دَيْنِهِ مَا جَوَابُهُ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُجْزِئُهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ لِمَا قُلْنَا مِنْ فَوَاتِ صِفَةِ الْيُسْرِ بِهِ فَيُجْعَلُ الْمَالُ كَالْمَعْدُومِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَجِبُ بِالْمَالِ وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِصِفَةِ الْيُسْرِ وَبِشَرْطِ الْقُدْرَةِ وَلِمَعْنَى الْإِغْنَاءِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ وَبِقَوْلِهِ «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» فَهَذَا الْإِغْنَاءُ وَجَبَ عِبَادَةً شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْغِنَى فَشُرِطَ الْكَمَالُ فِي سَبَبِهِ لِيَسْتَحِقَّ شُكْرَهُ فَيَكُونَ الْوَاجِبُ شَطْرًا مِنْ الْكَامِلِ، وَالدَّيْنُ يُسْقِطُ الْكَمَالَ وَلَا يُعْدِمُ أَصْلَهُ
ــ
[كشف الأسرار]
لِلْعَطَشِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِيَبْتَنِيَ عَلَيْهَا الْمَسْأَلَةَ الَّتِي تَلِيهَا وَيُبَيِّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ (لِأَنَّهُ قَالَ) أَيْ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَالْإِضْمَارُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ جَائِزٌ عِنْدَ الشُّهْرَةِ وَعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: ١] وَالْمَذْكُورُ فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ قَوْلُهُ (وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيْ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ إذَا كَفَّرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ صَرْفِ الْأَلْفِ إلَى الدَّيْنِ مَا جَوَابُهُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُجْزِيهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لِهَذَا وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبَعْدَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مُسْتَحَقٌّ بِدَيْنِهِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ وَهُوَ يُخَالِفُ الْعَطَشَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُسْتَحَقٌّ بِعَطَشِهِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّيَمُّمِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُجْزِيهِ اسْتِدْلَالًا بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَمَا يَقْضِي دَيْنَهُ، وَالتَّقْيِيدُ فِي الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ مَا عَدَاهُ وَعَلَى هَذَا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالتَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: إنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِيهِ فِي الْحَالَيْنِ وَالتَّقْيِيدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلِهَذَا اخْتَلَفُوا.
قَوْلُهُ (وَجَبَتْ بِصِفَةِ الْيُسْرِ) ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْقَلِيلُ مِنْ الْكَثِيرِ وَوَجَبَتْ فِي النَّمَاءِ لَا فِي أَصْلِ الْمَالِ تَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا شُرِطَ لِتَكْرَارِ الْوَاجِبِ تَكْرَارُ الْحَوْلِ كَذَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَشَرْطُ الْقُدْرَةِ يَعْنِي قُدْرَةً تُوجِبُ هَذَا الْيُسْرَ، وَلِمَعْنَى الْإِغْنَاءِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» نَصَّ عَلَى مَعْنَى الْإِغْنَاءِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَوَى أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُؤَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى الْمُصَلَّى، وَقَالَ: أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» وَلَكِنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي الزَّكَاةِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ لَمَّا وَجَبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِسَدِّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ مَعَ قُصُورِ صِفَةِ الْغَنَاءِ فِيهَا لِقُصُورِ النِّصَابِ فَلَأَنْ يَجِبَ فِي الزَّكَاةِ لِهَذَا الْمَعْنَى مَعَ كَمَالِ صِفَةِ الْغَنَاءِ فِيهَا كَانَ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِغْنَاءِ لَا بِالْمَسْأَلَةِ يَعْنِي أَغْنُوهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ قِيلَ الْمِثْلُ زَائِدٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١] ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَفَائِدَتُهُ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ إذْ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَاقْتَصَرَ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَلِمَعْنَى الْإِغْنَاءِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَالْكَفَّارَةَ فِي صِفَةِ الْيُسْرِ وَشَرْطِ الْقُدْرَةِ تَشْتَرِكَانِ فَأَمَّا مَعْنَى الْإِغْنَاءِ فَمُخْتَصٌّ بِالزَّكَاةِ فَلِهَذَا أَفْرَدَهُ بِاللَّامِ.
قَوْلُهُ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» ذَكَرَ فِي مَجَازَاتِ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُصَّدِّقَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ إذَا كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ مِنْ غِنَى وَالظَّهْرُ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ فَكَانَ الْمَالُ لِلْغِنَى بِمَنْزِلَةِ الظَّهْرِ الَّذِي عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ وَإِلَيْهِ اسْتِنَادُهُ وَلِذَلِكَ يُقَالُ فُلَانٌ ظَهْرٌ لِفُلَانٍ إذَا كَانَ يَتَقَوَّى بِهِ وَيَلْجَأُ فِي الْحَوَادِثِ إلَيْهِ، وَذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ وَأَمَّا لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى أَيْ صَادِرَةٌ عَنْ غِنًى فَالظَّهْرُ فِيهِ مَقْحَمٌ كَمَا فِي ظَهْرِ الْقَلْبِ وَظَهْرِ الْغَيْبِ، وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَرَطَ الْغَنَاءَ لِوُجُوبِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَا صَدَقَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute