الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَقْلًا مُتَوَاتِرًا بِلَا شُبْهَةٍ
ــ
[كشف الأسرار]
الْمَوْضِعُ صَالِحٌ لِلتَّأْكِيدِ لِقُوَّةِ شَبَهِ الْمَشْهُورِ بِالْمُتَوَاتِرِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ هَذَا تَعْرِيفَ الْكِتَابِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكُلُّ وَالْبَعْضُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ لَا عَلَى كَوْنِهِ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى إذْ يُتَصَوَّرُ الْإِعْجَازُ بِمَا لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِ أُشِيرَ فِي التَّقْوِيم؛ وَلِأَنَّ بَعْضَ الْآيَةِ لَيْسَ بِمُعْجِزٍ، وَهُوَ مِنْ الْكِتَابِ كَذَا قِيلَ؛ وَلِأَنَّ أَصَالَتَهُ لِلْأَحْكَامِ وَكَوْنُهُ حُجَّةً فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الْإِعْجَازِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَوْصَافِ، وَقِيلَ هُوَ حَدٌّ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ عَلَمٌ لِلْمُنَزَّلِ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ كَالتَّوْرَاةِ اسْمٌ لِلْمُنَزَّلِ عَلَى مُوسَى وَالْإِنْجِيلِ اسْمٌ لِلْمُنَزَّلِ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: ٢] ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَمَّا الْكِتَابُ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقُرْآنِ وَأَنَّهُ.
وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَكِنَّهُ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ أَوْضَحُ مِنْ لَفْظِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ الْكِتَابِ؛ فَلِهَذَا فَسَّرَهُ بِهِ، ثُمَّ قَيَّدَهُ بِالْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ وَبِالْمَكْتُوبِ احْتِرَازًا عَنْ الْمَنْسُوخِ تِلَاوَتُهُ لَا عَنْ الْوَحْيِ الْغَيْرِ الْمَتْلُوِّ كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّهُ بِدَاخِلٍ لِيَجِبَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَالْبَاقِي عَلَى مَا فَسَّرْنَا فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ الْمُنَزَّلُ عَلَى الرَّسُولِ قَيْدٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ هَذَا تَعْرِيفًا لِلْكِتَابِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقُرْآنُ حَقِيقَةً وَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ اسْمَ الْقُرْآنِ حَقِيقَةً لِلْبَعْضِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةٌ لِلْكُلِّ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَعْرِيفًا لَفْظِيًّا لِلْكِتَابِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي إنْ كَانَ لِلْمُشْتَرَكِ عُمُومٌ عِنْدَهُ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ هَذَا تَحْدِيدٌ لِلشَّيْءِ بِمَا يَتَوَقَّفُ تَصَوُّرُهُ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ الذِّهْنِيَّ لِلْمُصْحَفِ فَرْعُ تَصَوُّرِ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ دَوْرٌ أَوْ هُوَ بَاطِلٌ، قُلْت لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ؛ لِأَنَّ الْأَصْحَافَ لُغَةً جَمْعُ الصَّحَائِفِ فِي شَيْءٍ لَا جَمْعَ صَحَائِفِ الْقُرْآنِ لَا غَيْرَ يُقَالُ أَصْحَفَ أَيْ جُمِعَتْ فِيهِ الصُّحُفُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَالْمُصْحَفُ حَقِيقَتُهُ مَجْمَعُ الصُّحُفِ وَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى تَصَوُّرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ كَانَتْ ثَابِتَةً لَهُمْ قَبْلَ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ بَلْ قَبْلَ إنْزَالِ الْقُرْآنِ؛ وَلِكَوْنِ مَعْنَاهُ مَعْلُومًا سَمَّوْهُ مُصْحَفًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَفَرِّقًا فِي صَحَائِفَ أَوَّلًا فَجَمَعُوهُ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَسَمَّوْهُ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى غَيْرُهُ بِهَذَا الِاسْمِ إذَا وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنِّي قَدْ رَأَيْت دَفَاتِرَ مِنْ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا الْمُصْحَفُ الْأَوَّلُ الْمُصْحَفُ الثَّانِي فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ احْتِرَازًا عَمَّا لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْقُرْآنِ أَصْلًا إنْ جَازَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مِثْلُ مَا ارْتَفَعَ بِالنِّسْيَانِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْمُصْحَفُ عَلَى الْمَعْهُودِ وَأَنْ يُمْنَعَ لُزُومُ الدَّوْرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ، فَإِنَّهُ تَعْرِيفٌ لِلْكِتَابِ وَتَوَقُّفُ وُجُودِ الْمُصْحَفِ فِي الذِّهْنِ عَلَى تَصَوُّرِ الْقُرْآنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَعْلُومٌ عِنْدَ السَّامِعِ مُتَصَوَّرٌ فِي ذِهْنِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْكِتَابُ مَعْلُومًا لَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقُرْآنُ مَعْلُومًا لَهُ لَمَا صَحَّ جَعْلُ الْقُرْآنِ مَطْلَعَ الْحَدِّ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ الْمَذْكُورُ عَلَى تَعْرِيفِ الْقُرْآنِ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِّ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ قَالَ الْقُرْآنُ مَا نُقِلَ إلَيْنَا بَيْنَ دَفَّاتِ الْمَصَاحِفِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَصَاحِفِ مَا جَمَعَتْهُ الصَّحَابَةُ مِنْ الْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ فِي الْمُصْحَفِ فَيَنْدَفِعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute