وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْوَقْتَ مُتَّسِعًا وَلَكِنْ جَعَلَ لَهُ حَقَّ شَغْلِ كُلِّ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ فَإِذَا شَغَلَهُ بِالْأَدَاءِ جَازَ وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ مَا يَتَّصِلُ مِنْ الْفَسَادِ بِالْبِنَاءِ جُعِلَ عَفْوًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ مَعَ الْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ مُتَعَذِّرٌ وَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فِي الْعَصْرِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ ثَبَتَ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْفَسَادُ صَارَ فِي الْحُكْمِ عَفْوًا فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَدَّى فِي وَقْتِ الصِّحَّةِ بِخِلَافِ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِقَصْدِهِ ثَبَتَ الْفَسَادُ إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَخْتَارَ وَقْتًا لَا فَسَادَ فِيهِ.
ــ
[كشف الأسرار]
وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْوُجُوبِ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَلَكِنْ يَأْبَى هَذَا التَّأْوِيلَ مَا رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَإِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» ، وَالتَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ قَبْلَ نَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَلَا يُقَالُ كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ التَّطَوُّعِ خَاصَّةً كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَلَا يُوجِبُ نَسْخَ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فَإِنَّ قَضَاءَ الْفَوَائِتِ فِيهَا لَا يَجُوزُ، أَلَا تَرَى أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ انْتَظَرَ فِي قَضَائِهَا إلَى أَنْ ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ» فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَا رَوَاهُ نُسِخَ بِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفَجْرَ لَا يَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَكَأَنَّهُ اسْتَحْسَنَ هَذَا لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ أَفْسَدَهَا كَانَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ خَارِجَ الْوَقْتِ وَأَدَاءُ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ أَوْلَى مِنْ أَدَاءِ الْكُلِّ خَارِجَ الْوَقْتِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَقَوْلُهُ بَطَلَ الْفَرْضُ إشَارَةً إلَى نَفْيِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْجِهَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ.
قَوْلُهُ (جُعِلَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا) الشَّارِعُ جَعَلَ جَمِيعَ الْوَقْتِ مَحَلًّا لِأَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ وَأُثْبِتَتْ لَهُ وِلَايَةُ شَغْلِ الْكُلِّ بِالْأَدَاءِ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ رَبِّهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةَ صَرْفِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إلَى حَوَائِجِ نَفْسِهِ رُخْصَةً فَثَبَتَتْ أَنَّ شَغْلَ كُلِّ الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْوَقْتَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْعُذْرِ مَقَامَ الْأَدَاءِ لِحَاجَتِهِ إلَى شَغْلِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَقْبَالُ عَلَى الْعَزِيمَةِ هَهُنَا إلَّا بِأَنْ يَقَعَ بَعْضُ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ النَّاقِصِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ الْبَعْضُ نَاقِصًا وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ حُكْمًا لَا قَصْدًا فَإِنَّهُ بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ إنَّ مَنْ شَرَعَ فِي الْخَامِسَةِ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى وَيَكُونُ الرَّكْعَتَانِ تَطَوُّعًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْعَصْرِ مَكْرُوهٌ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ وَقَدْ حَصَلَ حُكْمًا لَا قَصْدًا لَمْ يُعْتَبَرْ حَتَّى لَمْ تَثْبُتْ صِفَةُ الْكَرَاهَةِ كَذَا هَذَا كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْمَعْرُوفُ بِالْغَنِيِّ فِي مُخْتَلَفَاتِهُ أَنَّهُ السَّبَبُ إنَّمَا هُوَ الْجُزْءُ الْقَائِمُ مِنْ الْوَقْتِ لَا جُمْلَةُ الْوَقْتِ وَنَعْنِي بِالْجُزْءِ الْقَائِمِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ يَنْتَقِلُ السَّبَبِيَّةُ جُزْءًا فَجُزْءًا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ يُخَرَّجُ الْفَرْقُ بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَإِنَّ الْفَجْرَ يَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي خِلَالِهِ وَالْعَصْرَ لَا يَفْسُدُ بِالْغُرُوبِ، ثُمَّ قَالَ وَظَنَّ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَائِنَا أَنَّا نَعْنِي بِالْجُزْءِ الْقَائِمِ الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ قُبَيْلَ الشُّرُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي الْعَصْرِ فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَطَوَّلَ الْقِرَاءَةَ حَتَّى دَخَلَ الْوَقْتُ الْمَكْرُوهُ يَجُوزُ وَلَوْ جَعَلَ الْوُجُوبَ مُضَافًا إلَى الْجُزْءِ الَّذِي هُوَ قُبَيْلَ الشُّرُوعِ لَكَانَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ كَامِلٌ بَلْ نَقُولُ بَعْدَ الشُّرُوعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute