للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَدَعَهُ بِالْفِطْرِ وَهَذَا لَا يَجْعَلُ غَيْرَ الْفَرْضِ مَشْرُوعًا فَانْعَدَمَ فِعْلُهُ لِعَدَمِ مَا نَوَاهُ وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا نَوَى النَّقْلَ أَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ فِي هَذَا كُلِّهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوُجُوبُ وَاقِعٌ عَلَى الْمُسَافِرِ وَلِهَذَا صَحَّ أَدَاؤُهُ بِلَا تَوَقُّفٍ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ التَّرْكُ قَضَاءً لِحَقِّهِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَسَاغَ لَهُ التَّرَخُّصَ بِمَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ بَدَنِهِ فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَهُوَ قَضَاءُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ أَوْلَى وَصَارَ كَوْنُهُ نَاسِخًا لِغَيْرِهِ مُتَعَلِّقًا بِإِعْرَاضِهِ عَنْ جِهَةِ الرُّخْصَةِ وَتَمَسُّكِهِ بِالْعَزِيمَةِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْغَيْرِ فَثَبَتَ أَنَّ غَيْرَ فَرْضِ الْوَقْتِ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ التَّرَخُّصَ بِالْفِطْرِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ فَإِذَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ كَانَ هُوَ وَالْمُقِيمُ سَوَاءً فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ بِكُلِّ حَالٍ.

وَقَوْلُهُ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَدَعَهُ بِالْفِطْرِ مَعْنَاهُ أَنَّ التَّرَخُّصَ مُخْتَصٌّ بِالْفِطْرِ دُونَ غَيْرِهِ فَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ الصَّوْمَ لَا عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ صَارَ مُتَرَخِّصًا بِمَا لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْعُ لَهُ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا نَصْبَ الْمَشْرُوعِ لِلشَّرْعِ لَا انْقِيَادًا لِلشَّرْعِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ فَانْعَدَمَ فِعْلُهُ أَيْ أَدَاؤُهُ الْوَاجِبَ الْآخَرَ أَوْ التَّطَوُّعَ لِعَدَمِ مَا نَوَاهُ أَيْ لِعَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا كَالصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا نَوَى عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ التَّرَخُّصَ بِتَرْكِ الصَّوْمِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ السَّفَرِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْمَشَاقِّ.

وَمَعْنَى التَّرَخُّصِ أَنْ يَدَعَ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ بِالْمَيْلِ إلَى الْأَخَفِّ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِوَاجِبٍ آخَرَ كَانَ مُتَرَخِّصًا لِأَنَّ إسْقَاطَهُ مِنْ ذِمَّتِهِ أَخَفُّ عَلَيْهِ مِنْ إسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِفَرْضِ الْوَقْتِ وَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِذَلِكَ الْوَاجِبِ وَلَمَا جَازَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى مَنَافِعِ بَدَنِهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى مَصَالِحِ دِينِهِ كَانَ أَوْلَى قَوْلِهِ.

(وَلِهَذَا صَحَّ أَدَاؤُهُ) وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي حَقِّهِ مُضَافٌ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ كَالشَّهْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» وَقَالَ «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] وَهَذَا يَعُمُّ الْمُسَافِرَ وَالْمُقِيمَ ثُمَّ قَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: ١٨٥] لِبَيَانِ التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَيُنْفَى بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا جَوَازُهُ وَفِي حَدِيثِ «أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ لَا يَعِيبُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ» وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ إذَا كَانَ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّ بِرَجُلٍ مَغْشِيٍّ عَلَيْهِ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَقِيلَ إنَّهُ صَائِمٌ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» يَعْنِي لِمَنْ هَذَا حَالُهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (بِلَا تَوَقُّفٍ) احْتِرَازٌ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِ الْمُؤَدِّي فِي آخِرِ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ عِنْدَهُمْ وَاحْتِرَازٌ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَمَالِ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ السَّاعِي إنْ كَانَ قَائِمًا لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ وَإِنْ وُجِدَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَّا أَنَّ وَصْفَهُ وَهُوَ النَّمَاءُ لَمْ يُوجَدْ. فَلَوْ وُجِدَ أَصْلُ السَّبَبِ قُلْنَا بِالْجَوَازِ وَلِفَوَاتِ وَصْفِهِ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ وَهَهُنَا السَّبَبُ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَيَصِحُّ الْأَدَاءُ بِلَا تَوَقُّفٍ كَأَدَاءِ الْحَجِّ مِنْ الْفَقِيرِ لِكَمَالِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْبَيْتُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِلَا تَرَدُّدٍ وَشَكٍّ قَوْلُهُ.

(وَصَارَ كَوْنُهُ نَاسِخًا لِغَيْرِهِ)

<<  <  ج: ص:  >  >>