للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ وَالنَّهْيُ الْمُطْلَقُ نَوْعَانِ نَهْيٌ عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ مِثْلِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَهْيٌ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَالنَّهْيُ عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهَا قَبِيحَةً فِي أَنْفُسِهَا لِمَعْنًى فِي أَعْيَانِهَا بِلَا خِلَافٍ إلَّا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ.

ــ

[كشف الأسرار]

أَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ مَعَ بَقَاءِ اخْتِيَارِ الْمُخَاطَبِ يَتَحَقَّقُ بِوُجُوبِ الِائْتِمَارِ فَكَذَلِكَ طَلَبُ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْفِعْلِ بِآكَدِ الْوُجُوهِ وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ حُكْمَ النَّهْيِ صَيْرُورَةُ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ حَرَامًا وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ فِيهِ فَإِنَّ النَّهْيَ وَالتَّحْرِيمَ وَاحِدٌ وَمُوجِبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الْحُرْمَةُ كَمُوجِبِ التَّمْلِيكِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ هَذَا هُوَ حُكْمُ النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَهْيٌ فَأَمَّا وُجُوبُ الِانْتِهَاءِ فَحُكْمُ النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فَفِي الْحَقِيقَةِ وُجُوبُ الِانْتِهَاءِ حُكْمُ الْأَمْرِ الثَّابِتِ بِالنَّهْيِ وَكَوْنُ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ حَرَامًا حُكْمُ النَّهْيِ وَمُقْتَضَى النَّهْيِ شَرْعًا قُبْحُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ حُسْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَنْهَى عَنْ فِعْلٍ إلَّا لِقُبْحِهِ كَمَا لَا يَأْمُرُ بِشَيْءٍ إلَّا لِحُسْنِهِ قَالَ تَعَالَى {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: ٩٠] فَكَانَ الْقُبْحُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ شَرْعًا لَا لُغَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي صِفَةِ الْقُبْحِ انْقَسَمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مَا قَبُحَ لِعَيْنِهِ وَضْعًا كَالْعَبَثِ وَالسَّفَهِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَمَا الْتَحَقَ بِهِ شَرْعًا كَبَيْعِ الْحُرِّ وَالْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَمَا قَبُحَ لِغَيْرِهِ وَصْفًا كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَمَا قَبُحَ لِغَيْرِهِ مُجَاوِرًا إيَّاهُ جَمْعًا كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُهُ.

قَوْلُهُ (وَالنَّهْيُ الْمُطْلَقُ نَوْعَانِ) أَيْ الْمُطْلَقُ عَنْ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ الْمُطْلَقُ عَنْ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَته أَوْ مَصْرُوفٌ إلَى مَجَازِهِ نَهْيٌ عَنْ الْأَفْعَال الْحِسِّيَّةِ وَهِيَ الَّتِي تُعْرَفُ حِسًّا وَلَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا وَتَحَقُّقُهَا عَلَى الشَّرْعِ وَنَهْيٌ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا وَتَحَقُّقُهَا عَلَى الشَّرْعِ فَالزِّنَا وَالْقَتْلُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَأَمْثَالُهَا لَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُهَا وَمَعْرِفَتُهَا عَلَى الشَّرْعِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً قَبْلَ الشَّرْعِ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَجْمَعَ فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَمْ يَكُنْ كَوْنُهَا قُرْبَةً وَعِبَادَةً عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ مَعْلُومًا قَبْلَ الشَّرْعِ وَكَذَا الصَّوْمُ وَالْبَيْعُ وَأَشْبَاهُهُمَا وَلَا يُقَالُ هَذِهِ الْأَفْعَالُ يُعْرَفُ حِسًّا كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ فَإِنَّا إذَا رَأَيْنَا مَنْ يُصَلِّي أَوْ يَبِيعُ عَلِمْنَا حِسًّا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْنَا الْقَتْلَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا فِعْلًا يُعْرَفُ بِالْحِسِّ فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا صَلَاةً وَعَقْدًا حَتَّى كَانَتْ سَبَبَ ثَوَابٍ وَسَبَبَ مِلْكٍ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ.

(فَإِنْ قِيلَ) فَالْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَنَحْوُهُمَا لَمْ يَتَوَقَّفْ تَحَقُّقُهَا عَلَى الشَّرْعِ فَإِنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ كُلَّهُمْ يَتَعَاطَوْنَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ الشَّرْعِ أَيْضًا (قُلْنَا) إنَّهُمْ إنَّمَا يَتَعَاطَوْنَ مُبَادَلَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ أَوْ بِالْمَنْفَعَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعْت وَاشْتَرَيْت عَقْدًا عِنْدَهُمْ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ لَا تَكَادُ تُضْبَطُ فَلَا بَلْ إنَّمَا هِيَ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ.

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَيْ الْمَذْكُورَ مِثْلُ الْحَجِّ وَالنِّكَاحِ لِمَعْنًى فِي أَعْيَانِهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَثْبُتَ الْقُبْحُ بِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ فِيمَا أُضِيفَ إلَيْهِ النَّهْيُ لَا فِيمَا لَمْ يُضَفْ إلَيْهِ فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَعَ صِفَةِ الْقُبْحِ لِأَنَّهَا تُوجَدُ حِسًّا فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا بِسَبَبِ الْقُبْحِ إلَّا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ أَيْ خِلَافِ كَوْنِهَا قَبِيحَةً فِي نَفْسِهَا كَالْوَطْءِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْأَذَى بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: ٢٢٢] لَا لِذَاتِهِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَالنَّسَبُ وَتَكْمِيلُ الْمَهْرِ وَالْإِحْصَانُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَثْبُتُ عَلَيْهِ وَنَظِير الْأَوَّلِ قَوْلُ الطَّبِيبِ لِلْمَرِيضِ لَا تَأْكُلْ اللَّحْمَ فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْأَكْلِ لِمَعْنًى فِي اللَّحْمِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُ وَنَظِيرُ الثَّانِي قَوْلُك لِغَيْرِك لَا تَأْكُلْ هَذَا اللَّحْمَ وَقَدْ

<<  <  ج: ص:  >  >>