للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَيَقْضِي فِي أَيَّامٍ أُخَرَ لِيَحْصُلَ لَهُ الْعِبَادَةُ عَلَى الْخُلُوصِ وَيَتَخَلَّصُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَلَيْسَ إلَى الْعَبْدِ شَرْعُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ كَالصَّوْمِ لَيْلًا.

وَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ هَذَا الزَّمَانَ لِلْأَكْلِ بِقَوْلِهِ «فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» عَرَّفَهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَنْ يَحْصُلَ التَّعْرِيفُ إلَّا بِوُجُودٍ خَاصٍّ مِنْ الْفِعْلِ فِيهَا أَوْ وُجُوبِهِ، وَوُجُودُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْرِيفُ وَإِنَّمَا الْخَاصُّ فِيهَا وُجُوبُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَكَانَ ذَلِكَ جَعْلًا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَهَا مَحَالَّ وُجُوبِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَيَنْدَفِعُ الْوُجُوبُ بِجَوَازِ الضِّدِّ فَدَلَّ أَنَّ الصَّوْمَ فِيهَا مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ شَرْعًا كَمَا فِي اللَّيْلِ وَأَيَّامِ الْحَيْضِ وَلِهَذَا قَالَا لَا يَجُوزُ الظُّهْرُ مِنْ الْحُرِّ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ تَعَيَّنَ لِلْجُمُعَةِ فِي حَقِّهِ حَتْمًا فَلَمْ يَبْقَ الظُّهْرُ ضَرُورَةً لِأَنَّهُمَا لَمْ يُشْرَعَا مَجْمُوعَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّوْمَ اسْمٌ لِمَا هُوَ قُرْبَةٌ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً فَلَا يَكُونُ صَوْمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ بِهِ وَلَوْ بَقِيَ مَشْرُوعًا بَعْدَ النَّهْيِ لَصَحَّ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ كَامِلٌ وَهَذَا صَوْمٌ نَاقِصٌ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ لِأَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَمْنَعُ قَضَاءَ الْوَاجِبِ كَمَا إذَا تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ أَوْ التَّعْدِيلَ فِي قَضَاءِ الْفَائِتَةِ يُمْكِنُ فِيهِ النُّقْصَانُ حَتَّى وَجَبَ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِصَيْرُورَتِهِ مَعْصِيَةً وَعَدَمِ بَقَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» .

وَلَنَا مَا مَرَّ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَشْرُوعِ يَقْتَضِي بَقَاءَ مَشْرُوعِيَّتِهِ إلَى آخِرِهِ وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا أَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحِكْمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ تَفَاصِيلُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةُ فِي الصَّوْمِ حُصُولُ التَّقْوَى لِمُبَاشَرَةٍ إذْ لَا مَشْرُوعَ أَدَلُّ عَلَى التَّقْوَى مِنْهُ فَإِنَّ مَنْ أَدَّى هَذِهِ الْأَمَانَةَ كَانَ أَشَدَّ أَدَاءً لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ وَأَكْثَرَ اتِّقَاءً لِمَا يُخَافُ حُلُولُهُ مِنْ النِّقْمَةِ بِمُبَاشَرَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقَاذُورَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٨٣] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: ١٨٤] وَفِيهِ أَيْضًا مَعْرِفَةُ قَدْرِ النِّعَمِ، وَمَعْرِفَةُ مَا عَلَيْهِ الْفُقَرَاءُ مِنْ تَحَمُّلِ مَرَارَةِ الْجُوعِ فَيَكُونُ حَامِلًا لَهُ عَلَى الْمُوَاسَاةِ إلَيْهِمْ وَفِيهِ أَيْضًا انْطِفَاءُ حَرَارَةِ الشَّهْوَةِ الْخَدَّاعَةِ الْمُنْسِيَةِ لِلْعَوَاقِبِ، وَرَدُّ جِمَاحِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَانْقِيَادُهَا لِطَاعَةِ مَوْلَاهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانٍ لَا تُحْصَى كَثْرَةً ثُمَّ لَا بُدَّ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ مِنْ تَعْيِينِ وَقْتٍ لِأَنَّ صَوْمَ الْوِصَالِ مُتَعَذِّرٌ وَالْوَقْتُ عَلَى قِسْمَيْنِ النُّهُرُ وَاللَّيَالِي، وَاللَّيَالِي أُعِدَّتْ لِلسُّكُونِ وَالرَّاحَةِ وَضْعًا وَالنُّهُرُ أُعِدَّتْ لِلتَّصَرُّفِ وَالتَّقَلُّبِ لِلِاكْتِسَابِ وَابْتِغَاءِ الرِّزْقِ وَذَلِكَ مُؤَدٍّ إلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ حَامِلٌ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِمَا فِي الْحَرَكَةِ مِنْ التَّحْلِيلِ فَتَعَيَّنَتْ النُّهُرُ لِلصَّوْمِ لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَلِيَتَحَقَّقَ الْحِكَمُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ثُمَّ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي مُسَاوَاةٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَسَائِرِ الْأَيَّامِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَكَانَ الشَّرْعُ الْوَارِدُ فِي جَعْلِ سَائِرِ الْأَيَّامِ مَحَلًّا لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَارِدًا بِجَعْلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ مَحَلًّا لَهَا أَيْضًا لِلْمُسَاوَاةِ وَتَحَقُّقِ الْحِكَمِ فِيهَا حَسَبَ تَحَقُّقِهَا فِي تِلْكَ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>